وكان الخندق عندئذ قد اكتملت سلسلته، حلقات متّصلة، إلاَّ من صخرة هنا اعترضت مسيرته، وأُخرى هناك استعصت على طَرَقات الفولاذ. فبينا نفر يحفرون في ناحية، اشتدّت عليهم كدية[1271]، فشكوها إلى رسول الله، فدعا عليه الصلاة والسلام بماء نفح به تلك الكدية، يقول من حضر: فوالذي بعثه بالحقّ، لانهالت حتّى عادت كالكثيب، ما تردّ فأساً ولا مسحاة. وقيل: وكان سلمان وجماعة من المسلمين يعملون في ناحية من الخندق، حتّى إذا بلغوا الندي ظهرت لهم صخرة بيضاء مروة[1272]، فكسرت حديدهم، وشقّت عليهم، فأُخبر الرسول عنها، فجاة، فأخذ المعول، وضرب الصخرة ضربةً صدعت ثُلثها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة، حتّى كأنّها مصباح في جوف ليل مظلم ... ثم ضرب الثانية فصدعت ثُلثاً آخر، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة ثم ضرب الثالثة فصدع ثُلثها الثالث، وبرقت برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة، فسأله الناس عن ذلك النور. فقال: «لقد أضاءت لي الأُولى قصور الحيرة ومدائن كسرى، ومن الثانية أضاءت القصور الحمر من أرض الروم، ومن الثالثة أضاءت قصور صنعاء»[1273]. وكبّر الرسول تكبيرة الفتح، وكبّر المسلمون مستبشرين. * * * وكذلك شاء ربّك أن تتحوّل ـ تحت ضربات معول الرسول ـ تلك الطرقات المسموعة إلى مرئيات، أوتترحّل تلك البرقات الوامضة عبر المسافات لتكرّ عائدة، كرّ الطرف، فتجيء إلى النبي حيث كان، وعلى أجنحتها قصور فارس والروم وصنعاء ... تماماً كما جيء لسليمان بعرش سبأ، وما قام من مقامه، ولا طرفت عيناه.