ويكرّر بصوت جهير: أبينا! أبينا! فيردّد أصحابه وراءه: أبينا! أبينا! ثم يجيبون: نحن الذين بايعوا محمدا *** على الجهاد ما بقينا أبدا * * * وأصبح الناس بالمدينة ولا حديث لهم إلاَّ غارة المشركين التي أصبحت على مسيرة أميال. إنّ أشباح عبدة الأصنام وأحلافهم تكاد تتراءى لأخيلة أهل البلدة كأنّها تطبق عليهم من هنا ومن هناك، تحيط بهم كالسوار، تخترق عليهم الخندق. لكن النساء والولدان كانوا الشغل الشاغل لرسول الله، فلأن يؤمّنهم الرسول فإنّ هذا الأمان نصف النصر، وهو طمأنينة لأصحابه المقاتلين أن يحاربوا وذووهم في ملاذ حصين. ومن ثم فقد أمر فُرفعت النسوة والذراري في الآطام ...فأمّا أُم المؤمنين عائشة فقد نزلت في حصن بني حارثة، وأمّا صفيّة بنت عبدالمطلب فنزلت في «فارع»: حصن حسّان بن ثابت. وأمّا الزهراء فلا نحسبها إلاَّ نزلت ببنيها حصناً يحتمون به وإن فاتنا في المرويّات أيّ تلك الحصون كان، فلعلّها نزلت مع عائشة أو صفيّة أو غيرهما من أُمهات المؤمنين ونسوة المهاجرين والأنصار، أولعلّ مكانها قد عُمِّي على الناس; خيفةً وحذراً أن يعرفه الأعداء، فيعمد إليها منهم عامدون يأخذونها سبيّة، أو يصيبونها بمكروه، توهيناً لعزم رسول الله وإصراره على القتال.