أخذوا يضربون بمعاولهم في الأرض حتّى تبلغ منها باطنها النديّ الرطيب، يُعمّقون القاع، يسوّون الجوانب، يرفعون على كواهلهم التراب والحجارة. فما كان معهم عبيد يكفونهم بعض هذا المشقّات، وكانت الأُمسيات شتائية مقرورة[1265]، فالهواء مثلوج، والقرة تنفذ في عظامهم إلى النخاع، والجهد والبرد يجمّدان الأوصال، والجوع والعطش ينهشان المعى[1266] والأحشاء. فربما مرّت الليلة والليلتان وما ذاق امرؤ منهم طعم كسرة من خبز يابس، ولا بلّل شفتيه بقطرة ماء. وكان الرسول قدوتهم على طريق الظمأ والسغب[1267] والنَصَب[1268] والمعاناة، فكلّ همه أن يؤمّن المدينة قبل أن يقاربها الأحزاب، فهو يقبل على العمل إقبال شوق وليس مجرّد إقبال أداء، يقوم بما يقوم به الاثنان والثلاثة والعشرة، وما ينوء بالعصبة أُولي العزم من الرجال، وكان يحفّز المؤمنين ويحمّسهم لينسوا في غمرة الحفر والحماس ما هم فيه من لاَْواء[1269]. وكما يرفع الحادي[1270] عقيرته ليستهوي الأبل بالحداء فتحثُّ السير، وتتّخذ من أخفافها أجنحةً تطير بها على وجه الرمال، كان يرتجز لرفاقه بنشيد صاحبه: عبدالله بن رواحة، أحد الأنصار: والله لولا أنت ما اهتدينا *** ولا تصدّقنا ولا صلّينا فأنزلن سكينة علينا *** وثبّت الأقدام إن لاقينا إنّ الذين قد بغوا علينا *** إذا أرادوا فتنةً أبينا