خبثهم عن اصطناع حيلة. وها هم أولاء تسنح له سانحة، مشت إليهم على قدميها مهطعة[1255]، تعرض نفسها وتقول:ها أنذا! كان ذلك إذ انطلق رسول الله إلى منازل يهود «بني النضير»، يستسهمهم في دية قتيلين قُتلا خطأً، وقواعد العهد بينهم وبين قوم الصريعين ثم بينهم وبين النبي تقضي عليهم بالإسهام. ولم ينكروا عليه حقّه، بل قالوا له: نعم يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت. فلمّا خرج الرسول من لدنهم، وجلس في ظلّ جدار من بيوتهم يستريح، تأهّباً للعودة إلى المدينة، نهزوا هذه السانحة الفريدة التي لا تتكرّر في الدهر، وخلا بعضهم إلى بعضهم يتحاورون: إنّكم لن تجدوا محمداً على مثل حاله هذه! فمن رجل يعلوا على هذا البيت، فيلقي عليه صخرةً، ويريحنا منه؟ قال أحدهم، عمرو بن جحاش بن كعب: أنا لذلك. وصعد، وأعدّ الصخرة، فلمّا همّ ليلقيها، لم يكن النبي حيث رآه قد كان! أتاه عليه الصلاة والسلام خبرُ غدرهم من السماء، فغادر المكان[1256]. وكادوا يدفعون ثمن خيانتهم هذه دماءهم وذراريهم، لولا أن استرحموا الرسول فأجلاهم عن المدينة، بعد أن حاصرهم في حصونهم خمس عشرة ليلة لو طالت بضعة لافترسهم الحمام! وتسرّب مصرع رسول الله من بين أصابعهم كما يتسرب الماء من خروق غربال[1257]! * * *