لكنّها لم تقع قطّ في براثن يأس طاغ، من ذلك النوع المعربد الأخرق، الذي يعيث في القلب عيثاً، ويعبث به عبثاً، ويجيل العيش في الأفواه ثمرةً حنظليةً مُرّة المذاق، ويجعل انبساطه العروق في الصدر تقلّصات وعقداً تكتم الأنفاس، ويملأ الأعين ظلمة من فوقها سواد، ومن تحتها سواد. كانت نفسها بمثابة آمنة، وجنّة حريزة، ما كانت لتقنط من روح الله، ولا كان ربّها ليجزيها على صبرها المؤمن بالقنوط الكفور. فحين اشتدّت المحنة بها، إذ تجمّعت على الرسول أحقاد قومه، وأحاط به سفهاؤهم يخنقون طريقه، وغدا حبيس سياج من سيوفهم تشرّعت لا غتياله، يومئذ جاءها الخبر يزفّ إليها نجاته. فلقد اخترق حلقة الحصار الأبكم بسلام، والمتربّصون به ليقتلوه ينظرون ولكنّهم لا يرون، ويرهفون سمعهم اللاقط لكلّ حركة ثم لا يسمعون. شاهت منهم الوجوه! انطمست البصائر! عُميت الأبصار! * * * ويوم خرجت من مكّة مهاجرةً، وطاردتها كوكبة فرسان «جناح»، عجزت خسّة السلائق[1224]، وفشل صَلَف[1225] الطغيان، وثلمت حدّة السلاح. ولم يستطع الأمر الذي بيّتوه وأعدّوا له أن ينال منها وطراً، إلاَّ هجمة جبان، وترويعة يعير، واطّراحه على الثرى إن تكن آذتها بعض أذىً، فإنّها لم تحقّق غرض أهل السوء، ولا استنزفت بدنها النحيل ماء الحياة. وفرّ عنها الهلاك خزيان! * * *