انفراط عقد أصحابه وتفرّقهم عنه، إلاَّ قلّةً كأصابع اليد الواحدة ثبتت معه أمام طوفان أعدائه، وهو قائم لقتالهم على قدم، لا يتحرّف ولا يتقلقل، وعلى قسوة ما كان في ميدان الوقعة، وشاهد! على الرغم من هذا كلّه، فلم يغب عن لحظ العيون والمشاعر، أنّه كان مشرق البال، يقظ الفكر، حاضر البديهة، كخير ما ينبغي أن يكون عليه قائد يعمل على أن يلملم شتات أجناده، وينفخ في روحهم المعنوي من روحه، ثم يعيد تنظيمهم على وجه يلقي في أرواع أبي سفيان والذين معه أنّ الحرب لم تضعضع المسلمين، بل تركتهم وهم أعزّ حولاً، وأنكر حيلةً. فما أن أصبح الأحد حتّى لجأ النبي إلى أُسلوب من أساليب التمويه الحربي الذي يرهب أعداء الله، ويفتّ في أعضائهم، فإذا الذي ظنّوه نصراً يتبدّى لهم وكأنّه لا يكاد يُذكر في النصر، إن لم يتبدّ وإنّه لأشبه بالهزيمة. ويبدأ فيجمع المعلومات عن أُولئك الأعداء بعد أن غادروا ساحة الصدام، ويرصد حركاتهم وإن باتوا منه على مسيرة أميال. قدم عليه رجل من أهل مكة، فسأله عن أبي سفيان وأصحابه ما خطبهم، وما يفعلون ويقولون، قال الرجل: نزلت عليهم، فسمعتهم يتلاومون ويقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئاً، أصبتم شوكة القوم وحدهم، ثم تركتموهم ولم تبتروهم، فقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم. فأمر الرسول فأذّن مؤذّنه في الناس ـ وبهم أشدّ القرح ـ بطلب الأعداء، وقال: «لا ينطلقنّ معي إلاَّ من شهد القتال»[1204]. وذاك هو الرأي! فليس أشدّ على أُولئك المشركين من امرئ عضّت سيوفهم عليه، ولا أعظم تحفّزاً إلى لقائهم من آخر وتروه في ابنه أو أبيه أو أخيه، ولا أحمى للغضب في نفس ثالث من شعوره أنّهم علوه بالنصر، وهو الأَولى منهم بالغلبة لولا أن تزحزح