أبا العاص، وتقدم الوافد إلى رسول الله، قال: بعثتني زينب في فداء زوجها فهاك! ووضع ثمن حريّة الأسير بين يدي الرسول. أفهذه الفدية تناسب ما عليه أبو العاص من يسار؟! إنّها صُرَّة صغيرة، لا تكاد تثير الانتباه ... إن نُظرت تضاءلت مظهراً: وإن قُوِّمت خسّت ثمناً، وإن وُزنت خفّت ثقلاً. وتأمّلها النبي لحظات، ثم حلّها ليرى ما تحتويه. أتراه حلّ عقدتها ليعقد جبينه؟! على الأثر كسا الحزن محيّاه، غامت عيناه، بالألم نبضت قسماته، فوق الأناسي والأشياء، بعيداً بعيداً عن الموجودات، عرج به شعوره في سماء ماضيه. فما لزفيره وشهيقه يستبقان؟ لكأنّما مشى شهراً، وجرى عشراً، وقطع المراحل والمسافات وما هدأت له قدم، ولا استراح جنب، ولا استقرّ به مقام. وما لهاتين الدمعتين المتألّقتين على أهداب جفونه تثبتان، فلا تنحدران على وجنتيه ولا ترقآن. في هذه اللحظة تجلّى في محمد الرسول محمد الإنسان، المشاعر البشرية الرفيعة هي التي أخذت تصوّر خلجاته النفسية بكلّ الوضوح، وتتحدّث في فيه ببيان بليغ لم تنفرج عنه شفتاه هو بالصمت أبلغ منه بالكلام. فلم تكن الفدية في الصُرَّة إلاَّ قلادة لخديجة كانت أهدتها إلى ابنتها زينب وهي عروس تُزفّ إلى أبي العاص. كان فيها من ريح الغالية التي رقدت منذ سنين في ثرى الحجون طيب يعطّر الأجواء، وكان لخشخشة حبّاتها في يده، وهو يداعبها بأصابعه مثل رنّات ضحكات الشباب الذي غاب. فأيّ فدية ثمينة هذه في الفدى التي جاءت من مكّة لفكّ أسر النخبة من قومه الذين أخرجوه؟ أيّ ثمن لحريّة أبي العاص هو أغلى قيمةً من هذه القلادة التي تُثمَّن فلا يكافئها مال؟