وتجهّم العباس، داخله الشُؤْم، ملكته الحيرة، خنقه الضيق. أفيكشف لقومه عن رؤيا عاتكة، أم يحبسها وراء شفتيه وإن عقله ليكاد يحدّثه: إن هي إلاَّ أضغاث أحلام؟ لكنّه بدا حليف قلق وبلبال، أحسّ كأنّه شواء في سفود[1140] يقلَّب على جمر الاضطراب! ولم يستطع صبراً على الكتمان، فانطلق يهمس بالرؤيا في ذهن هذا وذاك من رفاقه الأشراف ... وبلغ النبأ أبا جهل، فجاءه وهو في بعض أهله، يسعى إليه سعي الحانق المغيظ، قد احمرّ أنفه، ونفر ودجه[1141]، وبرزت حدقتاه ثم صاح فيه وفي من حوله بكبر واستهزاء: يا بني عبدالمطّلب! أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتّى تتنبّأ نساؤكم! فليته وعى! إذن لما ركب خيلاءه الحمقاء، لما مضى إلى ماء بدر، لما تهاوت به والذين تابعوه الآجال فمزّقتهم السيوف، وغالتهم الحتوف، وتوطّأت لهم منازلهم هناك قبوراً غير ملحودة تحت مواقع الأقدام! وعندما وقعت الواقعة، وبلغ مكة الخبر، جنّ جنون سادة قريش الذين أتخمهم الصلف[1142]، بعد إذ هاض[1143] الكبر، وذلّت الكبرياء، وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون. لكنّهم سارعوا إلى فداء أسرارهم، وأمهروا حريّاتهم بكلّ ثمين، وانطلقت البعوث من لدنهم إلى المدينة، يبتاعون بالذهب ما أهدر الغرور. * * * وقيل[1144]: ضاعفوا الفدى أغلوا لحريّات أسراهم في المهور. وكان من بين المبعوثين: عمرو بن الربيع، أوفدته زينب بنت محمد، ليفتدي زوجها