كان حزنها نابغي الآلام، منذ الصبا المبكّر اكتسته شوكاً، مشته رمضاء، لاكته مرّاً، نشقته لفح لهيب. وها هي الآن، وقد خايلها الزمن ببسمة خافتة، تعود فتسمعه عويلاً تشيّع به النائحات «رُقيّة» أُختها الحبيبة، في رحلتها إلى مرقدها الأخير، فإذا هو عندئذ ولولة تختلط بهتافات أهل المدينة، ونواح يمتزج بتهليلهم وهم يحتفون بنصر «بدر» الكبير. ففي نفس وقت التغنّي بالفلج على الأعداء، كان قبر الفقيدة الغالية مفغور[1128] الفم يتهيّأ لالتقام جثمانها الطاهر، مفتوح الذراعين يهمّ أن يستقبلها بالأحصان! فيا لبدر! يا له من يوم في حياتها، جبّار الحزن، وهّاج الابتهاج! إنّه يضمّ الضدّ إلى الضدّ، والنقيض للنقيض. عاشته فرحة وحسرة ... بسمة وعبرة. بحسّها الإيماني: كان تحوّلاً حاسماً في مسيرة الإسلام، لوى عنق الأحداث، فيه انشدخ[1129] جبروت الأصنام، تمرّغ أنف الشرك في الرغام[1130]، ذلّت قوة العتاة، عزّ وهن المستضعفين، ارتفعت راية التوحيد حتّى لتُرى ـ عبر الفراسخ والأميال ـ من موقع المسجد الحرام. وعلى أرض المعركة اجتمع النصر والهزيمة، التقى نشيج النعي بفرحة البشير، تداخلت الأصوات والمرئيات، فإذا ما يُشهَد مسموع، وإذا ما يُسمَع مشهود. في هذا الجانب المؤمن: بشاشة الوجوه، تهليل وتكبير ... في ذاك الخاسر، هدير العويل، أموات بغير أكفان!