فانبرى إليه قلب الزهراء، يترنّم بالشوق كنفثات ناي! استقبلته بصوت هادى رقيق، حلو الغُنَّة، عذب الرنّة، كتغريد طائر صغير نفض لتوّه عن زغبه[1122] ندى البكور! قالت له: «فكلِّم حارثة بن النعمان أن يتحوّل عني». ومع أنّ جرس الكلمات كان يزغرد[1123] على شفتيها ويغرّد، فقد سرت عبارتها تلك على تردّد وتحرّز إلى سمع الرسول. فهي تعلم أنّ الدار التي ودّت لو انتقلت إليها يقطنها حارثة، ويرى في لزومه إيّاها الخير والبركة وشرف الجوار لوقوعها لصق دار الرسول ... وهي تعلم أنّ ثمّة لحارثة بالمدينة دوراً كثيرة لا يعيبه أن يبرح داره تلك إلى إحداها لو أنّه أراد ... وهي تعلم أنّ ما طبع عليه حارثة من سماحة، وما أثر عنه من أريحية، أخلق بأن يسرع به إلى تلبية ما تروم، لو طالعه رسول الله برغبتها، بإشارة لفظ أو إيماءة بنان. لكنّها تعلم أيضاً أنّ أباها حليف حياء ... فلَكَم أكثر على الرجل في التحوّل! ولَكَم تنقّل في دياره من دار إلى دار! ولقد تحقّق هده اللحظة حدسها، عندما ترجم الرسول ما يتحرّك في خاطرها من لغة الظنّ الخفيّ المكنون إلى لغة الصوت الجاهر المسموع، سمعته يقول: «قد تحوّل حارثة عنّا حتّى قد استحييت منه»[1124]. فآوت إلى كهف الصمت! وماذا عساها تفعل أو تقول؟ لكنّ الغد تكلّم فأحسن الخطاب ... ما أن انقضى صباح أو صباحان، حتّى أقبل حارثة على رسول الله يضع بين يديه أُمنية الزهراء مغلّفة بالواقع المستيقن بعد أن تجرّدت من الأمل المظنون. قال وهو خافض النظرة، مطمئّن الفؤاد، لا أثر في نبراته لمنٍّ ولا مباهاة: