فابتدرت على الأثر عيناه، تدحرجت على وجنتيه قطرات عبرات، وارتدّت نظراته المغشاة بمثل الضباب إلى ماضيه ... ثم تردّدت أنفاسه همسات: «خديجة! وأين مثل خديجة؟!»[1111]. ذكرىً ليس شيء أثمن منها في كنوز حصائل العمر، ولا أغلى قيمةً في نفائس ما تكنّه الذاكرات، إعزاز لا يطاول مواظئه إعزاز، حبّ يعايش خفق القلب، ما بقي في النفس ذماء[1112]، وفاء ثابت الجدّة، دائم الخضرة، سرمدي[1113] البقاء، لا تبليه الأيام، لا ينتهي بنهاية دهر الناس، لا يفتأ يمتدّ على منبسط الوجود ليبلغ النشور، ثم يأوي إلى الخلود في رحاب الله. فثمة لخديجة في العلّيّين مقامٌ كأسمى مقام، ثمة بيت في الجنّة من قصب، لا صخب ولا نصب، بل سلام سلام. * * * ويؤوب الرسول من رحلة الذكريات، فيلقي إلى «أم أيمن» بنظرة لا تزال بها بقية من حزنه القديم الجديد، ولكنّها تحمل قبوله لما جاءت فيه. ثم يمضي مشيئته. نعم، آن الزفاف ...فإذا برحت المرأة ومعها الابتهاج، دعا إليه علياً فأمره أن يولم للناس، إنّه ليودّ أن تشاركه الدنيا في فرحه بالغالية الحبيبة، وإنّه من فرط الغبطة ليحسّ خفّةً في جوارحه، حتّى ليبدو كمن يمشي على ماء. ويغصّ[1114] بالوافدين المكان، من كثرتهم الكاثرة يكاد يضيق عنهم الهواء.