ذلك أنّه حين رأى النبي يوجّه راحلته، أخذته الخشية عليه أن تغلو له قريش في مكرها الخبيث، فقال: إلى أين يا رسول الله؟ فلمّا أن رآه يشير إلى حيث أراد، هاله الأمر، وصاح: وكيف تدخل عليهم وهم أخرجوك؟ فأجابه الرسول بنبرة الواثق، يطمئنّه: «يا زيد، إنّ الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإنّ الله ناصر دينه، ومُظهر نبيّه»[723]. وأراد أئمة الكفر من أهله وسادة قومه أن يزيدوه هواناً، فأبوا أن يجيروه عندما نزل بحِراء، وبعث إلى رؤوس أشرافهم الواحد بعد الآخر يطلب الجوار. وهل أهول محنة على نفس الأبيّ الكريم من إحساسه بالهوان؟ * * * لكنّ ربّه قيّض له المطعم بن عديّ، كما قيّضه يوم نَقْض الصحيفة، فخرج وأهله فأحاطوه به حتّى دخل المسجد يطوف وهم حوله في السلاح! وأقبل أبو سفيان يسرع وقد دهش كيف تأتّى لمحمد أن يقتحم هكذا بلدتهم تحت السمع والبصر لا يناله من أحد شرّ!! فلمّا رأى المطعم سأله: أتابع أم مجير؟ قال المطعم: بل مجير. ـ إذن لا تخفر! وخرس الزارون! فأيّ شيء أخلق بأن يبهر العقول ويحيّر الألباب من تصريف ربّك الأُمور على غير ما يقضي به منطق الأحداث، وبلا بشائر ولا مقدّمات تنبئ عن الخواتيم؟ وأيّ مسلك أعجب من موقف المطعم هذا، يخرج على إجماع قومه، ويحمي الرسول بنفسه وأهله، فيسلّ دونه مشرعات السيوف ـ لو دعت الحال لقتال ـ