ليتها اعتزلت الخلاف على الدعوة، فقبعت ساكنة في داخل جلد هذه العزلة لا تنسلخ منه انسلاخ الثعابين، ثم لا تدبّ الخفاء أو العلانية، ولا تحرّك رأسها القتّال إلى يمين أو إلى شمال، فإنّما السمّ في الناب ليس في الإهاب[655]! لو أنّها فعلت، إذاً لكان للرأي سلطان، ولقارع العرب محمداً حجّةً بحجّة، وبرهاناً ببرهان ... ولعدلوا ـ أو الأكثرون ـ عن دربهم، إذ تبيّن لهم أنّهم على ضلال ولساروا في ضياء اليقين على الجادّة السواء. لكنّ قريشاً، عزّةً بالإثم آثرت الاستبداد، سلكت القهر الفكري سبيلاً إلى بلوغها من النبي ما تريد. وكان لها من وضعها الاجتماعي بين القبائل، ووزنها السياسي، ومنزلها عند بيت الله، أقوى أسناد. إنّها لتأخذ بعنان سكّان شبه الجزيرة بين أصابعها، فتقبضه أو ترخيه، وترسله أو تلويه ... تريد فتضرب على الأسماع، وتحجّر على العقول، وتذر رماد الشكوك في العيون ... وتبغي فترسم لأذهانهم أُسلوب التفكير، وتهوى فتشدّ على أفئدتهم أن تفقه، وتضع على أطراف ألسنتهم الكلام، ثم ترى رأيها في هذه الألسنة، حبيسة اللجم، أسيرة الأعنّة، فتطلقها بحساب أو تجذبها بحساب. وكانت دعاواها التي أذاعت بها هنا وهناك، في كلّ ناد ومحفل، وزمرة وجمهور، هي أنّها إنّما تجنّب العرب سوء المنقلب، وتحميهم وبال المآل، وتباعد بينهم ـ بحكمتها البالغة وحسن تبصّرها بالأُمور! ـ وبين تدمير نظام الجماعة، وتضييع تراث الغابر، والصبوء[656] ـ جهالةً وضلالةً! ـ عن دين الآباء. أمّا نواياها التي أضمرتها في صدورها المقروحة حقداً وضغينةً، فتسويرهم بسور من الصمم، يمنع الآذان أن تُصغي للرسول، وتعلم ما الإسلام.