وكم أكنَّت من قيح! وكم غلقت أبواب شغافها على بغضاء! ومع كثرة ما تعلّلت به قريش من علل، وتذرّعت به من ذرائع، هي في حقيقتها قول مأفوك، وزيف محبوك، فإنّ موقفها الختّال[657] ما كان ليبدو في مرآة وقائع الحقّ إلاَّ كمثل نسيج عنكبوت ـ كثف أو خفّ، امتدّ وانسدل كسجاف[658] أو تخرّق وتمزّق كأسمال[659] ـ ينمّ شفيفه عمّا وراءه ولا يخفيه. وهل كان يستر أصل المعدن الخسيس وجوهره، أو يرفع قدره وقيمته أن يموّه بطلاء برّاق؟ ما كان! بل قد شهدوا أن تنفيرهم الناس عن محمد إنّما كان يزيدهم دنوّاً منه، إقبالاً عليه، بل كانوا يشعرون في قرارة نفوسهم أنّهم يأفكون، وأنّ كلّ الذي يروّجونه إن هو إلاَّ افتراء رخيص، إن هو إلاَّ خدعة الصبي عن اللبن، إن هو إلاَّ باب، ظاهره الرحمة وباطنه العذاب! (وَاللهُ مِن وَرَائِهِم مُحِيطٌ)[660]. * * * على قدر إصرار رؤوس الشرك الاستكبار، وعلى التمادي في الغيّ، وعلى العمل الدائب الجهيد لوأد الدعوة الإسلامية، كانت كلمات الله تتسرّب إلى القلوب، كانت تنتشر ولا تنحسر. القهر الفكري الذي جهدوا الجهد كلّه لفرضه على الوافدين عليهم من رجال القبائل، بدا وكأنّه غِربال[661] واسع الخروق! أو كشبكة صياد انقطع من خيوطها خيط،