لكنّ هذا الذي ودّته لأُولئك وهؤلاء كان منىً عذبةً، كأنّها سحاب جهام[650]، يخايل الأرض الصديانة[651] من بعيد، ويمرّ فإذا هو لا يلقي عليها سوى ظلاله، ويقلع فإذا الصدى صدىً والأدام أدام، أو هو سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء وما هو بماء، أو هو ستارة ضباب، ما إن تلمسها أول شعاعة للشروق حتّى تنجاب أو تذوب. إنّهم قوم بور، وهل يستوي الظلّ والعود أعوج؟ أم الصخر يخضرّ؟ أم يسمع الرميم في القبور؟ ومع ذلك فقد ظلّت الزهراء تأمل أن تحقّق فيهم المستحيل. وكيف لا تأمل، وهي ترى العرب الأبعدين يخفّ بعضهم إلى الإسلام، أحياناً فرادى، وأحياناً زُرافات[652]، وقد اهتدوا النجدين[653]،ففرّقوا بين الحقّ والباطل، والطيّب والخبيث؟ الجزر تحوّل إلى مدّ، بالغيّ تبدّلوا اليقين. أفليس أولى بذوي القربى أن يروا النور؟ * * * غير أن قريشاً بدت وقد أبدت إلاَّ أن تنصّب نفسها قوّامة على أهل شبه الجزيرة، تحرّكهم كيف تشاء، وتجمّدهم متى تشاء. فليتها ارعوت[654] عن أبيها وتركته للناس، ليتها سكتت عنه، لها دينها وله دينه ـ كما نصح لها شيخها عتبة بن ربيعة ـ فيكفاها وتكفاه، فإن انتصر فلها النصر والفخر، وإن خذلته القبائل الأُخر فعليه وحده الخذلان والخسران.