أرض الله الواسعة ـ غير مكّة بالطبع ـ حتّى لا تؤلّب المسلمين عليهم، اختارت مصر داراً لإقامتها ومقامها، لماذا؟ تجمع كتب التاريخ أنّها اختارت مصر أرض الكنانة، لما سمعته عن أهلها من محبّتهم لآل البيت، ومودّتهم لذوي القربى من آل محمد (صلى الله عليه وآله). وكذلك لما وعته عمّا حدّثت به أُم سلمة من أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أوصى بأهل مصر، حين بدأ التفكير في فتحها، وروي عنه قوله (صلى الله عليه وآله): «إنّكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمّى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإنّ لهم ذمّةً ورحماً»[73]. وفي رواية أخرى: «ذمّةً وطهراً»[74]. وقد فسّر البعض «رحماً وطهراً»: مارية القبطية التي يقال: إنّها كانت ابنة المقوقس عظيم القبط في مصر، التي أرسلها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فتزوّجها، وأنجب منها ابنه إبراهيم[75]. ويعجز القلم عن أن يصف موكب السيدة زينب حين بدأت تشارف أرض مصر، من الذين ذهبوا على اختلاف طبقاتهم لاستقبالها عند «بلبيس» عام 61 هجرية، حتّى أنّها رضي الله عنها حين شاهدت احتفاء أهل مصر بها، ظلّت تردّد وتقول: (هذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) ]يس: 52[. ومنذ ذلك التاريخ كانت السيدة زينب أول جوهرة من دوحة النبوة المباركة ترصع أرض مصر، بل هي رضي الله عنها ظلّت منذ هذا التاريخ قبساً من أقباس النبوة في مصر. وما فعله أهل مصر مع السيدة زينب فعلوه مع تلك الأغصان من الدوحة النبوية المباركة التي جاءت إلى مصر بعدها.