ومع الفرحة تكون النبوءة: هذه الطفلة النبوية تنتظرها من أيام الجهاد أشقّها وأثقلها على القلب وطأةً «... فهم يذكرون أنّ سلمان الفارسي أقبل على عليّ بن أبي طالب يهنّئه بوليدته، فألفاه واجماً حزيناً، يتحدّث عمّا سوف تلقى ابنته في كربلاء...!»[279]. وتحت ظلال هذه النبوءة تنمو زينب في كنف الرسول مع أُمّها فاطمة سنوات خمساً، أو تقارب الستّ، وتدرج طفلة رصينة ناضجة، لاتفارق أمّاً مجاهدة متبتّلة، تسابقها في إسباغ الوضوء، وتلاحقها في إقامة الصلاة، ترشف وتتعلّم، وتحاكي كلّ حركة وسكنة تفعلها الأُمّ البتول التي هي أشبه خلق الله بالرسول (صلى الله عليه وآله). وفاطمة تحتضن زينب بين ابتسامة ورقرقة دمعة، تدعو لها: «جعل الله فيك الخير يا زينب، وفي أبنائك البَرَرَة الأتقياء، وكأنّي يا ابنتي أنظر إليك وأنت تدافعين عن الحقّ المهضوم، بمنطق فصيح ولسان عربيٍّ مبين». ثم تأتي اللحظة التي تلحق فيها الأم القدوة بأبيها العظيم في رحاب الله، حزينة، غاضبة، وقد أوجعها أن ترى الحقّ يخرج من مكمنه، وبشفافية التُقى والتبتّل تراه، وقد استدرجته الأهواء; ليكون كرةً تتقاذفها العاصفة الفاتنة، التي سوف يستشهد فيها زوجها وأبناؤها وأهل بيتها، صرعى مجندلين[280]، لايؤنسهم إلاّ الحقّ في وحشة الطريق. وغريب: لاتشعر زينب بثقل هذا اليتم الرهيب المبكّر، حين يفقد الإنسان أُمّاً ليست ككلّ الأُمّهات، فكأنّها استثقلت على أُمّها مواصلة الحياة بعيداً عن النبي المفدّى، فآثرت لها سعادة اللقاء به على مرارة الفراق عنها، فداء لها، وبرهان حبّ سخي. وتوصيها فاطمة في ثقة واحترام أن تكون «أُمّاً لأخويها: الحسن والحسين»! وتنفّذ زينب الوصية بدقّة والتزام، فتكون أُمّاً حقيقيةً، وهي لم تتجاوز السادسة، لاتفارق أخويها، حتّى بعد زواجها وزواجهما، لتبقى دائماً أُمّاً لهما، ثم لتصير من بعد ذلك أُمّاً للشهداء في كلّ زمان ومكان!