على محاملهم بعض التمر والخبز والطعام، فصاحت فيهم السيدة زينب وقالت: يا أهل الكوفة! إنّ الصدقة علينا حرام. وصارت تأخذ من أيدي الأطفال وأفواههم ما أخذوه من القوم وتلقي به إلى الأرض، والناس حولهم يبكون على مصيبتهم التي حاقت بهم. فطلّت عليهم السيدة أم كلثوم برأسها من محملها وقالت لهم: صه يا أهل الكوفة يقتلنا رجالكم، وتبكينا نساؤكم! فالحكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء. وبينما هي تخاطبهم، إذ بضجّة قد ارتفعت، وإذا هم قد أتوا برأس الإمام الحسين، والرمح تلعب بها يميناً ويساراً، فالتفتت موجعة، وأومأت إليه بحرقة، وجعلت تقول: يا هلالاً لما استتمّ كمالاً *** غاله خسفه فأبدى غروبا ما توهمت يا شقيق فؤادي *** كان هذا مقدّراً مكتوبا ثم أشارت رضي الله تعالى عنها إلى الناس، فسكتت أصواتهم، وطارت نفوسهم; خشية من جلال الموقف ورهبته، وأخذت تخاطبهم قائلة: الحمد لله، والصلاة والسلام على أبي محمد وآله الطيّبين الأخيار. أمّا بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل[213] والغدر، أتبكون، فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة، إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتّخذون أيمانكم دخلاً[214] بينكم. ألا وهل فيكم إلاّ الصلف[215] والنطف[216]، والكذب والشنف[217]، وملك الإماء وغمز الأعداء، أو كرعي على دمنة[218]، أو كغضّة ملحودة، ألا بئس ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم، وفي العذاب أنتم خالدون.