يغزلنه، وبنصفه الآخر ما يموّنهنّ طول الأسبوع، فأخذت العجوز يوماً ما غزلته على عادتها، ولفّته في خرقة حمراء ومضت به إلى السوق لبيعه، فبينما هي سائرة في طريقها والغزل على رأسها، إذ انقضّ طائر على رزمة الغزل بخرقتها الحمراء، واختطفها وارتفع، فوقعت المرأة مغشيّاً عليها، فلّما أفاقت أذرت دموعها، وأسالت عينيها، واسترسلت في بكائها، ثم أخذت تقول: كيف أصنع باليتيمات، وقد أجهدهنّ الجوع، وآلمهن السغب، فاجتمع القوم عليها، وسألوها عن شأنها وعمّا أبـكاها، فأخبرتهـم بقصّتها، فدلّوها على أن تذهب إلى السيّدة نفيسة رضي الله عنها تبثّها بثّهـا وحزنها، وتذكـر لها أمرها، فينفّس الله ما بها، ويزيل غماءها. فذهبت إليها لوقتها، فأخبرتها بقصّتها وما جرى لها، وما أصاب بناتها من جوع، وسألتها الدعاء، فأشفقت عليها السيّدة نفيسة ورثت لها ولبناتها، ثم رفعت السيّدة نفيسة ببصرها إلى السماء وقالت: يا من علا فقدر، وملك فقهر، اجبر من أَمتك هذه ما انكسر، فإنّها وبناتها من خلقك وعيالك، يا أرحم الراحمين. ثم قالت للعجوز: اقعدي، فإنّ الله بعباده رحيم، وهو على كلّ شيء قدير، فجلست المرأة بالقرب من الباب، وفي قلبها من جوع بناتها التهاب. فلم تمض ساعة حتّى أقبل جماعة يطرقون باب السيّدة نفيسة ويستأذنون في الدخول، فأذنت لهم، فدخلوا وسلّموا عليها وهي من وراء حجاب، فسألتهم عمّا أقدمهم وعن أمرهم، فقالوا: إنّ لنا لأمراً عجباً، نحن قوم تجّار، ولنا مدّة ونحن سائرون في البحر في سلامة وأمان، فلمّا وصلنا إلى قرب بلدكم انثغرت في مركبنا ثغرة، وفُتحت فيها فتحة، فدخل فيها الماء وأشرفنا على الغرق، فجعلنا نسدّ تلك الثغرة فلم تنسدّ، فاستغثنا بالله تعالى، وضرعنا إليه وتوسّلنا بك إليه، فإذا بطائر ألقى إلينا خرقةً فيها غزل من الكتّان، فوضعنـاها في تلـك الفتحة، فانسـدّت بإذن الله تعـالى وببركتك، وقـد جئنا إليك بخمسمائة درهم فضة شكراً لله تعالى على نجاتنا وسلامة مركبنـا. وعند ذلك بكت السيّدة نفيسة رضي الله عنها ورفعت بصرها إلى السماء وقالت: إلهي ما أرأفك بخلقك ! وألطفك بعبادك ! فلك الحمد الجميل والشكر الجزيل. ثم نادت العجوز، فأقبلت مسرعةً، فقالت لها سيدة الدارين: بكم تبيعين غزلك كلّ جمعة ؟ فقالت: بعشرين درهماً، فقالت: أبشري، فإنّ الله تعالى عوّضك عن كلّ درهم خمساً وعشرين درهماً !