أحبّها الشعب المصري قبل قدومها إليه، حيث سمع عن أنبائها بالمدينة بلد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتلقّتها النساء والرجال بالهوادج والخيول مرحبّين، يهلّلون ويكبّرون، ولم يزالوا معها إلى أن دخلت مصر، فأنزلها عنده كبير التجّار بمصر جمال الدين عبدالله الجصّاص، وكان من أهل الصلاح، ومن أصحاب المعروف والبرّ والصدقة والمحبة في الصالحين والعلماء والسادة الأشراف، فنزلت عنده في داره معزّزةً مكرّمةً مبجّلة، فأقامت بها عدّة شهور، والناس يفدون إليها زرافات ووحداناً، من سائر مدن القطر، ومن جميع الآفاق، يتلمّسون بركتها ويرجون دعاءها، ويرون في إشراقتها إشراقة بيت النبوّة وعترة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم). وكانت سيّدة من المصريّين تُسمّى بأُمّ هانئ، لها دار رحيبة بجهة المراغة والقبر الطويل بالمصاصة ـ أوالمنصوصة ـ فرجت من السيّدة نفيسة النزول في دارها، وكانت امرأة ورعة تقيّة صالحة، فقبلت السيّدة نفيسة وانتقلت إلى تلك الدار، فلم ينقطع عنها الزوّار، وانهال عليها الناس من كلّ حدب وصوب، من طلاّب الحاجات، وراغبي الدعوات، وملتمسي النفحات والبركات، ويعودون جميعاً وقد استجاب الله دعاءها، وقضى لهم حاجتهم وكشف كروبهم. وقد كان يجاور بيت أُمّ هانئ رجل من اليهود يقال له: أبو السرايا أيّوب بن صابر، وله بنت مُقْعَدَة، وفي يوم من الأيام توجهّت بها أُمّها إلى السيّدة نفيسة واستأذنتها في بقائها في حماها إلى أن تعود من حمّامها، فتركتها في ردهة الدار ومضت إلى الحمّام، حتّى إذا جاء وقت صلاة الظهر نهضت السيّدة نفيسة لوضوئها والبنت القعيدة ترقبها، وتستشرف إلى ما تصنعه السيّدة، وكان ماء الوضوء يجري في مجرىً بالردهة إلى بئر تحت عتبة الدار، فألهم الله عزّوجلّ البنت أن تزحف من مكان قعدتها وتصل إلى ذلك المجرى زاحفةً، فأخذت في تقليد السيّدة فيما تفعله من غسل وجهها ويديها ورجليها، وما أن غسلت رجليها من ذلك الماء الذي يسيل في المجرى من فضل وضوء السيّدة، حتّى كأنّما نشطت من عقالها، وزال عنها كساحها، وشفاها الله سبحانه وتعالى ممّا بها، فنهضت قائمةً مسرعةً في الخروج إلى الدرب خارج الدار، تلعب مع لدّاتها، والسيّدة في شغل عنها بعبادتها وصلاتها، فلمّا حضرت أُمّ البنت إذ بها تجدها وقد زال عنها ما أقعدها، وهي قائمة على قدميها، كأنّه لم يكن بها شيء، فاحتضنتها وهي نشوانة مأخوذة ممّا رأت من شفاء بنتها وعافيتها، فسألتها عن أمرها، فأخبرتها بجليّة الأمر، وما كان من غسلها رجليها من فضل ماء الوضوء، فبكت الأُمّ بكاءً