فقالت لها: يا سيدتي، لو تركت لنا شيئاً من هذه الدراهم لنشتري به شيئاً فنفطر عليه، فقالت لها: خذي غزلا غزلته بيدي فبيعيه بما تشتري به طعاماً نفطر عليه، فذهبت المرأة وباعت الغزل وجاءت بما أفطرت به هي وإيّاها، ولم تأخذ من المال شيئاً([356])، فهي الجوادة بنت الجواد، وهي من قوم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. وكانت رضي الله عنها عيوفة عزوفة، فما عرف عنها أنها مدّت يدها لمخلوق، وما كانت تأخذ شيئاً ممّا كان يأتى إليها من مِنَح الأُمراء والعظماء، بل إنّها كانت تبعث به إلى ذوي الحاجات، سخاء نفس وعزّة فطرة، وما كانت تنفق على نفسها وأفراد بيتها إلاّ ما كان من مالها أو مال لزوجها، أو ما يأتيها ممّا تغزله بيدها، وكانت لا تأكل طعاماً لغير زوجها. وهذا أمير مصر السرىّ بن الحكم، فقد ألحّ عليها إلحاحاً شديداً في أن تنزل في دار له نزل عنها لها، فبعد لأي وجهد قبلت أن تنزل في تلك الدار التي وهبها لها، وقد سرّه قبولها وحمد الله تعالى على ذلك([357])، فهي من آل بيت لا يرضى ذووه أن يكون لأحد غير الله تعالى له عليهم نعمة ولا منّة، شمماً وإباءَ نفس. وهذا هو الأمير الذي بعث إليها بمائة ألف درهم، فلم تشأ أن تبيتها أو تدخرها، بل وزّعتها دون أن تُبقي لها منها درهماً. وكانت السيّدة نفيسة رضي الله عنها كثيرة البرّ والمواساة، عطوفةً رحيمةً، تحنو على القوم وتتّحد بهم، فتؤويهم إلى ضلّ رحمتها، وتمهّد لهم مهاد رأفتها. ولم يكن عطفها على ذوي قرباها بأقلّ أثراً من ذلك، فكثيراً ما نالهم برّها، وشملهم خيرها. فهذه بنت أخيها السيّدة زينب قد لاقت من عمّتها من الحنان والرأفة والإحسان ما جعلها تخلص إليها، وتتفانى في خدمتها، وتقوم لها بما تحتاجه من أُمورها، فإنّ عمّتها ملكت قلبها ببرّها وعطفها، حتّى وفت لها أربعين سنة ! تنشط لخدمتها، وتسهر على حاجتها، دون سأم أوملل([358]). وكذلك أخلصت لها خادمتها «جوهرة» لما لمسته من عطف وحنان، فعاشت في كنفها