محمد وعبد الرحمان، وعبد الرحمان البويطي، والربيعان المرادي والجيزي، وحرملة من أصحاب الإمام الشافعي رضي الله عنهم، وكثيرون غيرهم([352])، استفادوا ممّا أفاضه الله عليها من فيوضات ممّا سيأتي بيانه بعد قليل، وما روته من أحاديث وآثار وفقه وعلم ومعارف نبوية، فإنها رضي الله عنها من أهل البيت، اتّقوا الله فعلّمهم الله، وأنار قلوبهم بنور عرفانه، فكانوا من حملة العلم وحضنته، ومن ذوي الفقه والدين والمعرفة واليقين. وكانت السيدة الورعة زاهدةً في دنياها، تؤمن بمنهج الزهد وتمارسه، وكان رائدها في طريق الزهد جدّها الأعظم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أحاطت بسيرته، وكان مرشدها هو ما قال الرسول وما فعل، وقد مالت بطبعها منذ صغرها إلى حياة بعيدة عن زخرف الحياة وزينتها، بالرغم من أنّ أباها كان أميراً للمدينة، وكان بلا شكّ يعيش عيشةً رغدةً، ولكنّها ما كانت تستشرف إلى لذائذ الدنيا وشهواتها. وفي بيت أبيها نشأت ـ بالرغم ممّا يُحاط بها من مظاهر الترف ـ نشأة الزهادة والتقشّف، فمثلا كانت قليلة الأكل، ويُروى أنّها كانت تأكل كلّ ثلاثة أيام مرّة([353]). وكانت لها سلّة معلّقة أمام مصلاّها، فكانت كلّما اشتهت شيئاً وجدته في السلة. وتقول زينب بنت يحيى: كنت أجد عندها ما لا يخطر بخاطري، ولا أعلم من يأتي به، فعجبت من ذلك، فقالت: يا زينب، من استقام مع الله تعالى كان الكون بيده وفي استطاعته([354]). وكانت تمضي أكثر وقتها في معبدها أوحرم جدّها المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، على أنّه يقال: إنّها رضي الله عنها لم تكن سلبية في زهدها، تقاطع الحياة مقاطعةً تامةً كما يفعل الزهّاد، وإنّما كان هجرها للدنيا واقعاً على كلّ ما يعوقها عن الله وطاعته ومرضاته، ويعوقها عن العمل لآخرتها والتزوّد لها.