فوجم القوم مبهوتين وغلبت دموعهم قلوبهم.. فبكى العدو كما بكى الصديق!. * * * لم تنقض في ذلك اليوم خمسون سنة على انتقال النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه الدنيا إلى حظيرة الخلود، محمّد الذي برّ بدينهم ودنياهم، فلم ينقل من الدنيا حتّى نقلهم من الظلمة إلى النور، ومن حياة التيه في الصحراء إلى حياة عامرة يسودون بها أُمم العالمين. ثمّ هذه خمسون سنة لم تنقض بعد، وإذا هم في موكب جهير يجوب الصحراء إلى مدينة بعد مدينة سباياه بنات محمّد حواسر على المطايا، وأعلامه رؤوس أبنائه على الحراب، وهم داخلون به دخول الظافرين ! وبقيت الجثث حيث نبذوها بالعراء « تسفي عليها الصبا »([453]). فخرج لها مع الليل جماعة من بني أسد كانوا ينزلون بتلك الأنحاء.. فلمّا أمنوا العيون بعد يوم أو يومين سروا مع القمراء إلى حيث طلعت بهم على منظر لا يطلع القمر على مثله شرفاً ولا وحشةً في الآباد بعد الآباد. وكان يوم المقتل في العاشر من المحرّم.. فكان القمر في تلك الليلة على وشك التمام.. فحفروا القبور على ضوئه، وصلّوا على الجثث ودفنوها، ثمّ غادروها هناك في ذمّة التأريخ([454]).