بمقدور العلماء أو الأزهر أن يتحركوا بعيدا عن سلطان الدولة ولا سياساتها. ولذلك فإن الخلاف السياسي مع إيران أدى تلقائيا إلى تراجع عملية التقريب، بل وفتح الباب في أقطار عربية عدة، وليس في مصر وحدها، لتعميق التفريق وتقديم التخاصم والتقاطع على التلاقي والتفاهم. وكانت النتيجة أن تراجعت علائق السنة والشيعة عما كانت عليه قبل نصف قرن مضى. بكل المقاييس فأوضاع التسعينيات أفضل بكثير من أوضاع الأربعينيات، فهذه الأخيرة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. كانت مسكونة بأجواء الإحباط واليأس. كانت الخلافة الإسلامية قد ألغيت في تركيا، وكان العالم العربي كله تقريبا يزج تحت الاحتلال، وبدا الغرب في أوج قوته، منتصرا في الحرب ومستعلياً كنموذج حضاري. ومع ذلك فقد انتعشت حركة التقريب على نحو مدهش كما سنرى بعد قليل. في الثمانينيات كانت المشاعر الدينية قد تعالت مؤشراتها، وسرى الانتعاش بدرجة أكبر في المجتمعات الشيعية، التي استقبلت بحفاوة حدث الثورة الإسلامية في إيران. ورغم أنه من المفترض في هذه الأجواء أن تكون الظروف مواتية للتقريب بدرجة أكبر، إلا أن ذلك لم يحدث للأسف الشديد; لأن رياح السياسة وضغوطها أصبحت أقوى، الأمر الذي لم يوفر لجهود التقريب الدفعة القوية المرجوة. وسواء اتسمت جهود التقريب بالبطء والحذر الآن، أو أن أصوات دعاة التفريق مازالت تجد من ينصت إليها ويتسجيب لها. فإن تجربة التقريب التي تمت في الأربعينات، وتواصلت حتى أوائل التسعينيات، تظل تجربة رائدة جديرة بأن نستحضرها ونتأملها مليا. وقبل استحضار تلك التجربة فإنني ألفت النظر إلى أن ما ذكرته عن أوضاع التقريب في الوقت الحاضر يصف الوضع على جملته، الأمر الذي لا ينبغي أن يصادر أصواتاً وجهوداً دافعت بإخلاص عن التقريب وعن وحدة الأمة الإسلامية. غير أن هذه الجهود ظلت استثنائية، وتعبر عن مواقف أفراد لا مؤسسات، وبالتالي فإن ثمارها ظلت محدودة الأثر والنطاق.