الإصلاح في العالم الإسلامي الحديث، ارتفع الصوت الداعي إلى التقريب، وعلا بعلو فكرة الإصلاح وانتصارها، فأصبحت العصبية موضع الاتهام، واتجهت أنظار المصلحين إلى الخروج من ضيق المذهب إلى الآفاق الواسعة للفقه الإسلامي كله، واعتقد أن الاتجاه المقارن دعت إليه مجموعة أسباب: الأول: إحساس عام لدى كبار الفقهاء في كل المذاهب بضرورة الخلاص من هذه العصبية المذهبية التي فرقت المسلمين إلى ملل ونحل، أضعفت قوتهم أمام العدو الغاصب، والمبشر الغازي. الثاني: اجتماعي مصدره الاستجلاب التشريعي، الذي أيقظ الأمة للدفاع عن شريعتها، والتمسك بهويتها، وكانت تجربة التقنين على المذهب الواحد كما في مجلة الأحكام العدلية، ومجلة الالتزامات التونسية طريقاً محفوفاً بمخاطر الفشل، فنبتت منهجية التقنين مبدأ أصبح من مسلمات الفقه التشريعي الحديث، وهو النظر إلى الفقه الإسلامي باعتباره وحدة متكاملة، كل رأي فيها صح دليله تصح نسبته إلى الإسلام. الثالث: سبب علمي يتمثل في نهضة الفقه المقارن في الغرب باعتباره منهجاً للفكر القانوني، وعلماً في برامج الدرس، وكان له أعلام كبار من أمثال (لامبير) و(كوهلر) و(أولمان)، وكان تأثير هؤلاء في أبناء الإسلام المبتعثين إلى الخارج كبيراً، ولكن التأثير الأكبر جاء على يد الأستاذ (لامبير) الذي كان عميداً لمدرسة الحقوق السلطانية في مصر أوائل القرن الماضي، والذي كون نخبة من التلاميذ قدر لها ـ خاصة من خلال العلامة عبد الرزاق السنهوري ـ التأثير في الدراسات المقارنة في مصر والعالم العربي، بل وفي مسيرة التشريع العربي الحديث منذ أوائل العشرينات، ولا يتسع الوقت في ورقة موجزة لكتابة تفاصيل دقيقة في هذا المجال. ولكن الأستاذ (لامبير) أيقظ فقه الشريعة في نفوس طلابه وقال لهم أكثر من مرة (إن لديكم كنزاً لا نظير له عندنا هو فقهكم الإسلامي، وإن القانون المقارن الذي تدرسونه بين يدي له مكان مرموق عندكم باسم علم الخلاف، وبأمثلة بديعة من النقاش المنطقي، والتحليل النافذ، الذي لا يزيد قارئه علماً بموضوع البحث فحسب، بل ويربّي فيه ذوقاً حقوقياً رفيعاً يندر أن يحصل على مثله في كلياتنا الحقوقية).