ميدان استنباط الفروع من أصول الشريعة، وكان الاتفاق في بعض الفروع ضرورياً لأن المصادر الأصلية واحدة، وكان الخلاف في بعض الفروع طبيعياً لتنوع الأحكام واختلاف الأزمنة والأمكنة، وكان علماء السلف أدرى بذلك وأعلم فنشأ علم الخلاف، وهو في أحد مفاهيمه فقه مقارن ينتصر الفقيه فيه للأدلة في إطار المذهب الواحد، أو بين المذاهب الفقهية المختلفة، بل والمذاهب العقائدية أيضاً، وكان لعلماء القرون الأولى اليد الطولي في هذا العلم بما يشهد لهم برحابة الصدر، وسعة العلم، ووجدت الكتب الفقهية المقارنة منذ القرن الثاني والثالث، وكان لكتابات الكبار من أعلام القرون الخمسة الأولى ومن بعدهم كتب عميقة ومناظرات رصينة بدايتها عند محمد بن الحسن الشيباني والشافعي، ثم كتابات ضخمة لأبي زيد الدبوسي في (الأسرار)، وأبي المظفر السمعاني في (الاصطلام) وأبي المعالي الجويني، والقفال، من أهل السنة، وعند الشيعة الإمامية تراث عظيم في الفقه المقارن بعد عصر الشيخ المفيد، يمثله علم الهدى الشريف المرتضى في (الانتصار) و(الناصريات) من كتبه الموجودة وفي غيرهما من مصنفاته الهامة المفقودة، وشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي كتابات مطولة في مقدمتها (الخلاف)، وهو كتاب عمدة اختصره الطبرسي، والصيمري ـ، وله (المبسوط) في الفروع وكلاهما كاشف عن تمكن الطوسي في فقه أهل السنة حتى نسبه السبكي في طبقاته إلى الشافعية، ولا ننسى العلامة الحلي فله في مقارنة آراء المذهب كتابه (مختلف الشيعة في أحكام الشريعة) وله في مقارنة المذاهب (تذكرة الفقهاء)، و(منتهى المطلب)، ولم تضق المذاهب بالآراء أو الأئمة في هذه العصور المبكرة، فقد كان الإمام جعفر الصادق شيخاً لعدد من أئمة المذاهب السنية، ولم يتردد الشريف المرتضى وهو يقدم كتابه (الذريعة في أصول الشريعة) أن يعترف لفقهاء السنة بالسبق في التحرير وتهذيب الأدلة، بل إن هذه البيئة العلمية اتسعت للنقد الداخلي حتى لشيوخ المذهب الكبار كما نرى في (سرائر) ابن إدريس وهو يناقش شيخ الطائفة الطوسي، ومثل ذلك عند ابن زهرة في (غنية النزوع) وهذه أمثلة لا حصر فيها، إن هذه البيئة ونظائرها هي الميدان الخصب للتقريب بين المذاهب والذي كان سمة الفقه الإسلامي في عصوره الأولى، ولم تكن الخصومات العقلية، والعصبيات المذهبية إلا تجسيداً لواقع تكمن وراءه الأسباب السياسية، أو عصور التقليد والتكاسل، وعندما هبت رياح