بمكة آخر عمره بزاوية العيني بقرب الأزهر خرجنا وكل واحد منا قد جعل عباءته على رأسه يداري بها شخصه عن الناس، وكان من يسمع بحالنا ـ يسمعنا من القول ما كنا لا نجد بدّاً من تحمله والصبر عليه). يضاف إلى ذلك الاعتماد في الدرس على كتب المتأخرين، وهي عصية على الفهم، لا يتسع بها عقل، ولا ينمو من خلالها فكر، وأصبحت قراءة المقررات الدراسية والامتحان فيها من أشد الأمور حتى ليذكر الشيخ بدر الدين الحلبي أنه في سنة 1317هـ كان الناجحون في امتحان الكفاءة من طلبة الأزهر في فقه أبي حنيفة ثلاثة طلاب اثنان من سوريا والثالث من مصر، وذلك من جملة عدد من دخلوا قاعة الامتحان وكانوا أكثر من ثلاثمائة، لقد كان توجيه الأستاذ الإمام إلى تعديل المناهج، وإصلاح المؤسسة الأزهرية عملاً رائداً، صحيح أنه لم يسر به إلى نهاية الشوط، ولكن جاءت أجيال من مدرسته لتعمل على إكمال رؤيته، وانجاز رسالته، ويعد الانفتاح على المذاهب الأربعة من أهم حصاد غرسه، وهو ما نادى به في مذكراته، وفي كتابه (الإسلام والنصرانية) بل إنه دعا إلى الانفتاح على الفقه الإسلامي كله بمذاهبه المختلفة، وهذا الانجاز جاء بعد عصور ورث فيها الأزهر روح التعصب المذهبي حتى الكمال بن الهمام عن أحد علماء الحنفية منع المناكحة بين أهل السنة والاعتزال، وكان الشيخ محمد مصطفى المراغي ـ المدرس والقاضي وشيخ الأزهر بعد ذلك ـ هو الذي أكمل المسيرة، ونزل بالأفكار إلى أرض الواقع في قوانين المحاكم، وفي مواد الدراسة، والمراغي ـ كما وصفه محمود شلتوت ـ ما خرج بروحه وعلمه وعقله وتفكيره، عن أن يكون تلميذاً للإمام محمد عبده. لقد تحركت مياه كثيرة في عالم الفكر والتشريع، وأفرز الواقع جبهات لمقاومة التبشير، ومجابهة الاستجلاب التشريعي، وأصبح الانفتاح المذهبي ضرورة لأمرين: الأول: الإيمان بصحة الأُصول التي تنتمي إليها كل المذاهب الإسلامية وهي أصول واحدة ومشتركة. الثاني: الواقع المتحرك الذي يحتاج في صناعته على عين الشريعة إلى الفقه الإسلامي كله باعتباره وحدة متكاملة لا تفاريق مذهبية، يقول أحد تلاميذ الإمام ـ مؤكداً دعوته