التجديد والإصلاح في فكر السيد جمال الدين الأسدآپادي أحمد الموثقي باحث واستاذ جامعي من الجمهورية الاسلامية يعد السيد جمال الدين الأسد آپادي، أبرز المصلحين الاسلاميين، والمؤسس الحقيقي للفكر التجديدي عند المسلمين والمجتمعات الشرقية في التاريخ المعاصر. فأفكاره السياسية وأراؤه الاصلاحية تعود جذورها الى قدماء الفلاسفة والمفكرين الاسلاميين، وهي متأثرة بالأوضاع والظروف التي حكمت العالم الاسلامي ومجتمعاته في القرن التاسع عشر، تلك المجتمعات التي ابتليت بعد وقوعها بأسر الاستعمار الاوروبي بالانحطاط والتخلف، حيث انتابها الضعف العام اثر الهجوم الغربي عليها. إن الأوضاع الحالية أكثر تعقيداً من ذي قبل، ولازلنا بحاجة الى فكر السيد وأرائه، لذا فمراجعة تلك الأفكار وتحليلها واعادة قراءتها تكتسب في ظل هذه الظروف اهمية خاصة، ولاسيما إن الكتابة حول البعد التجديدي والاصلاحي في فكره قليلة رغم ما كتب حوله في الأبعاد الأخرى. الاصلاح والتجديد هناك اتجاهان في تبني الاصلاح والتجديد.([31]) الاتجاه الأول: تبناه المتغربون الذين يدعون الى متابعة الحضارة الغربية والاحتذاء بالنموذج الاوروبي، فأكثر هؤلاء يرى أن أساس الاصلاح والتجديد هو الارتباط بسياسة الدول الاوروبية (والتغريب)([32])، عبر تحديث أهدافنا ومؤسساتنا. وقد تبنى هذا الاتجاه طيف واسع، من المثقفين منهم: ملكم خان، آخوند زادة، سبهسالار، مستشار الدولة، طالبوف وتقي زادة، من ايران. والسيد احمد خان في الهند، والطهطاوي، وشبلي شميل وطه حسين من العالم العربي. فهؤلاء نادوا بفصل الدين عن السياسة، وقالوا بأصالة المادة، والعقل، والعلم، وطالبوا بالرقي، وأكدوا القومية بالخصوص وتبنوا العلمانية.([33]) الاتجاه الثاني: دعاة الاصلاح الديني واحياء الفكر الاسلامي، الذين يسعون الى الاصلاح والتغيير انطلاقاً من الدين، ويرون أن التخلص من الانحطاط والضعف مرهون بتبني مبادئ الدين الإسلام، ومن الذين تبنوا هذا الاتجاه: السيد جمال الدين، عبده، الكواكبي، اقبال، سيد قطب، المودودي، شريعتي، الطالقاني، المطهري وآخرون، لكن ابرزهم هو الإمام الخميني (رض). وهذا التيار يدعو للعودة الى الاسلام الأصيل، وعدم الفصل بين الدين والسياسة، ويرى انسجام العقل مع الدين، ويؤكد الاجتهاد ووحدة المسلمين في مقابل الهجوم الغربي.([34]) ثم إن الاتجاه الثاني ينقسم بلحاظ آخر الى شقين، الأول سلفي، يمثله محمد عبد الوهاب، والشق الثاني، ثوري راديكالي، يمثله السيد جمال الدين الاسد آبادي([35]). ويتمايز هذان الشقان بعضهما عن بعض، رغم تبنيهما المشترك لشعار الاصلاح، حيث يهتم الثاني اهتماماً حقيقياً بالعقل والفلسفة والعلم والاجتهاد والتجديد. وهذه الدراسة مخصصة لتحليل مفهوم التجديد والاصلاح، ودراسة ظروفهما في ظل التغيرات الاجتماعية. كما تتحدث عن أهداف التجديد والاصلاح في نظر السيد جمال الدين. وينبغي الإشارة الى أن السيد الاسد آبادي يؤكد ضرورة تجديد المجتمعات الاسلامية على وفق مباني الدين الإسلامي، ولزوم الاستفادة من المذاهب الغربية المختلفة في الاصلاح والتجديد، شريطة المحافظة على وضع المجتمعات الشرقية، وتاريخها وثقافتها وعاداتها وعقائدها. ورغم أن أفكار السيد بهذا الخصوص غير منظمة وغير مقننة، لكن يمكن استنتاجها من خلال بيانه لأسباب انحطاط المجتمعات الاسلامية وتخلفها فكرياً، سياسياً، اقتصادياً واجتماعياً، وكذلك من خلال نتائج ابحاثه الاجتماعية. أولاًـ معنى الاصلاح وضرورته إن ضرورة اصلاح أمور المسلمين، كما شخصها السيد جمال الدين([36])، قد اكدت عليها تعاليم الدين الاسلامي الحنيف، فالاصلاح في القرآن، والثقافة يعني ترتيب وتنظيم الأمور، وهو ضد الفساد مفهوما([37]). ومفهوم الاصلاح بنظر الاسلام يغاير الاصلاح المصطلح عليه في علم الاجتماع السياسي بـ (رفورم) ([38]). أي الاصلاح الديني البروتستانتي، كما يغاير معنى الثورة([39]) أو التغيير الجذري. فالاصلاح، في سياق احياء([40]) وتجديد([41]) الفكر الديني الذي ينادي به السيد، هو اجراء تغيير وتحول اساس على طريق الرقي والتكامل، من أجل تحقيق الأهداف الاسلامية والكمال الإنساني المطلوب، أو بتعبير شريعتي: (الثورة الاصلاحية). ([42]) فعلاوة على اصلاح الامور الاقتصادية والسياسية، لابد من اصلاحات أولية في فكر وثقافة المسلمين، ولابد من تصحيح الرؤية التقليدية للدين، والتي تؤكد الجمود واعطاء التصحيح رؤية اسلامية أصيلة، تعتبر الحركة والتكامل من أجل تحقيق الأهداف امراً حياتياً. وفي الواقع لابد من ثورة فكرية وثقافية على صعيد المجتمع تسبق أيّ ثورة سياسية او اقتصادية، ثورة لتصحيح الرؤية التقليدية، الميكانيكية الجامدة، واستعاضتها برؤية تبحث بجد عن حلول للمعضلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بالاعتماد على الاسلام الاصيل، والتصدي بوعي الى التغريب. وفي هذا الخصوص يؤكد السيد على الرؤية الصحيحة للايديولوجيا، والعمل في اطار الاعتماد على البناء الثقافي والمعنوي للمجتمع والأمة، فيقول: (لا أمة بدون أخلاق، ولا أخلاق بدون عقيدة، ولا عقيدة بدون فهم). ([43]) وبعد أن أشار السيد الى الضعف والعجز والاضطراب الذي يسود جميع طبقات المسلمين، وشرح حالتهم المؤسفة وهم ينتظرون ظهور حكيم أو مصلح مجدد يحيي الدين، أكد أولوية اصلاح عقول المسلمين وتفكيرهم ورؤيتهم، وشدد على أهمية التربية الإلهية الحسنة لتحقيق ذلك، يقول: (كل شخص من المسلمين، شرقاً وغرباً، وجنوباً وشمالاً، ينتظر بأذن مصغية وعين تنظر الى قارعة الطريق، ظهور حكيم أو مصلح ـ من أي بقعة من بقاع الأرض ـ يصلح عقول المسلمين ونفوسهم، ويجتث الفساد، ويربي الناس تربية الهية حسنة، فلعلنا نعود بسبب هذه التربية الحسنة الى السعادة)([44]). فهو يعتقد إن اله الإسلام لن يخذل هذا الدين الصادق والشريعة الحقة، وينتظر أكثر من الآخرين، (أن تتنور بأقرب وقت عقول المسلمين بحكمة حكيم وتدبير خبير).([45]) فعلى هذا يكون الاصلاح الديني من وجهة نظر السيد اجراء تغييرات في داخل المجتمعات الاسلامية لاحيائها وتجديدها وذلك في اطار الفكر والمعرفة الدينية، وبعد تصحيح نظرة المسلمين للاصلاح، فهو يرى إن اصلاح الفرد والمجتمع يتم على وفق مباني الفكر والثقافة الدينيتين، وبقيادة مفكرين ومصلحين اسلاميين. وبمعنى آخر، إن المراد بالاصلاح الديني هو اصلاح وتجديد الرؤى من داخل الدين، لا كالاصلاح الديني في العالم المسيحي الذي تتبناه البروتستانتية، أو كالبابية، او كالسلفية التي الغت المذاهب الأخرى، واعلنت نفسها مذهباً جديداً أسمته الوهابية. ورغم أن الاصلاح الديني الذي دعا اليه السيد في القرن التاسع عشر، كان في بدايته ـ خلافاً للبروتستانت ـ رد فعل ضد السياسة الاستعمارية الغربية([46])، وكان يؤكد خلاله الوحدة بين المسلمين، غير إنه رفع بعد ذلك شعار محاربة الجمود والسطحية ودعا الى تخليص الدين من الخرافات، واثبات قدرته، بمساعدة العقل والرؤية الاصلاحية السليمة، على حل معضلات المجتمعات الاسلامية. ومنذ أن رفع السيد جمال الدين تلك الشعارات والى اليوم، لم نسمع بأحد يدعو الى اعادة النظر في اصول مذهب اتباع مدرسة أهل البيت (ع)، خلافاً لبعض المصلحين من مدرسة أهل السنة([47]). لاستغنائهم عن ذلك مادام باب الاجتهاد مفتوحاً عندهم. وبعد أن رد السيد على مدعي الاصلاح الديني بمعناه الآخر، وتأكيده ضرورة اصلاح الواقع في اطار الدين، والذي يعني عنده ازالة الخرافات التي تراكمت عبر قرون، والاجتهاد في المسائل الأساسية طبقاً لمقتضيات الزمان والمكان، قال: »ماذا كان يقصد (البابيون) من تخفيف التكاليف المحمدية؟ أي خدمة قدموها للمسلمين سوى تبديل القرآن الى (البيان) ([48])، وتبديل (مكة) الى عكا([49])؟ فهذا ليس اصلاحاً. المسلمون لا يحتاجون الى دين جديد. الدين بحاجة الى تسهيل وفقاً لمقتضيات الزمان والمكان، لكن البابية عجزوا عن ذلك«. ([50]) فالسيد يؤكد دائماً ضرورة تفسير الأحكام والقوانين الاسلامية تفسيراً يتناسب مع مقتضيات الزمان، لتكون قادرة على حل أزمات المجتمع الاسلامي، فيقول: (ينبغي أن يراعي الاسلام حاجات وضرورات كل قرن، ويستجيب لها. لكن ما يزيل التخوف إن الله يبعث في رأس كل قرن رجلاً يصلح أمر هذه الأمة). ([51]) ثانياً ـ ظروف الاصلاح المسألة الأساس في فكر السيد، هي معرفة أسباب التحولات الاجتماعية، ثم دراسة مساراتها. أي دراسة أسباب ظهور تلك التحولات وكيفية زوالها، ثم دراسة عوامل الرقي والانحطاط. وهدفه من ذلك هو الكشف عن تلك العلل والأسباب ليجد لها حلولاً مناسبة، ويستطيع القضاء على أسباب التخلف والانحطاط. وهذا هو المراد من اصلاح أمور المسلمين واسعادهم. وهذا على مباني الفكر الديني يسمى احياءً وتجديداً. من جهة أخرى، يتطلب التجديد والاصلاح ادوات خاصة، ومصلحين يتوافرون على خصائص وصفات معينة، وفي غير ذلك سيتحول الاصلاح الى فساد. ([52]) أما ما هي شروط الاصلاح، وما هي صفات المصلحين؟ يرى السيد ضرورة مراجعة تاريخ المجتمع الذي يراد التعرف على أسباب تخلفه ورقيه لاكتشاف القوانين التي تحكم تحولاته الاجتماعية، يقول: (ينبغي الاطلاع على أحوال الأمم السابقة لمعرفة التحولات التي مرت بها، فبهذه الطريقة يمكن أن نضع أيدينا على أسباب تخلف الشرق …).([53]) وبشكل عام لا يمكن ـ بنظر السيد ـ معرفة أسباب مرض أي أمة ما لم (نطلع على تاريخها، ونتعرف على الحوادث التي وقعت لها خلال ادوار حياتها، وماهي عاداتها وتقاليدها).([54]) ويتأكد هذا الأمر بالنسبة للقادة والمسؤولين ومن بيدهم زمام الأمور([55]) وبهذا الشكل فإن السيد جمال يشابه ابن خلدون في قراءته للتاريخ، فهو لا يعتبر التاريخ مجرد حوادث متعاقبة، وإنما هو المصدر الأساس لمعرفة القوانين التي تحكم التحولات الاجتماعية، والسبيل الى كشف اسباب زوال وبقاء الدول والأمم. فإن كل ذلك ممكن من زاوية فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع وباستخدام المنهج العلمي الصحيح.([56]) ويقسم السيد الذين يقرأون التاريخ ـ ومنهم الأمم الشرقية ـ الى ثلاث مجاميع. المجموعة الأولى: الذين يقرأون التاريخ من دون وعي وتأمل وعبرة، ومثل هذا مثل من ينظر الى لوحة معينة، فقد يبتهج بها أو ينزعج منها دون أن يعرف السبب، ولو سئل: (لماذا وصلت تلك الأقوام الى أوج العظمة والمجد؟ ولماذا انحطت بعد ذلك وتلاشت؟ ولماذا بعض الأمم لازالت منذ قديم الزمان باقية؟)([57]). فهؤلاء لا يعللون الأحداث، وربما يحيلون ذلك الى الحظ والطالع. ويمكن تصنيف هذه المجموعة على المتحجرين من ذوي العقول الجامدة، المتمسكين بالعادات والتقاليد. المجموعة الثانية: من ذوي المستويات المتوسطة، الذين ليس لهم اطلاع كامل، ولا يتوافرون على شرائط المصلحين … هؤلاء: (ليس لديهم اطلاع كامل عن حياة تلك الأمم، ولم يقفوا على أسباب وعلل ما ابتلوا به من أمراض، ولا يعرفون عاداتهم وتقاليدهم ومذاهبهم وعقائدهم، وما هي مكانة هذه الأمم في الماضي، وما هي حالتهم في الوقت الحاضر، وأي مستوى من الحقارة وصلوا اليه، وكيف قطعوا المسافة بين المرحلتين) ([58]). هؤلاء يدعون الاصلاح والتجديد و(يحبون التفاخر الواهي) و(يطلبون الحياة الهادئة) ([59])، وواقعون في أسر الجهل والغفلة، وإذا كان لديهم نصيب من العلم والثقافة، فعلم منحرف ويريدون أن يحملونا مباني ورؤى خاطئة([60]). وبعض هؤلاء يعتقد، وفق (مبادئ فاسدة) و(أسس باطلة)، إن جميع الأديان باطلة، وهي من جملة أوهام الإنسان وتصوراته، فعليه لا يجوز أن يكون الدين ـ برأيهم ـ مقياساً للتفاضل بين الأمم. ([61]) إن المتنورين المقلدين للغرب، يعتمدون المبادئ العلمانية في تفسير وتحليل الظواهر والتحولات الاجتماعية، وفي ضوئها يقيّمون الأحداث ويجيبون على التساؤلات المطروحة، فمن هؤلاء السيد أحمد خان في الهند، الذي كان داعية إصلاح، لكنه يفسر القرآن تفسيراً مادياً طبيعيا، وكذلك ملكم خان واخوند زاده وتقي زاده في ايران، فهؤلاء يعتقدون أن (سبب انحطاط المسلمين) و(اضطراب احوالهم) هو عقائدهم، (ولا تعود لهم عظمتهم وشرفهم إلا إذا تخلصوا من تلك العقائد) ([62]). لذا كانوا يسعون لإزالة تلك العقائد. ينبغي على داعية التجديد والاصلاح في رأي السيد أن يكون معبأ علمياً، وأن يكون نموذجاً في الاخلاق والسلوك والالتزام بالقيم، وإلا (إذا كان عاجزاً عن اصلاح نفسه كيف يمكنه اصلاح الآخرين). ([63]) والذي نعتقده إن السيد لا ينكر وجود افكار وأخلاق ايجابية عند غير الشرقيين، لكنه يؤكد اقتباس ما هو مفيد وعلمي من تلك الأفكار والآراء، وينتقد متنوري الشرق ودعاة الاصلاح والتجديد الذين يقلدون أوروبا والحضارة الغربية تقليداً سطحياً، بعيداً عن تاريخهم وثقافتهم، ومن دون اطار نظري يعتمد الدين والفلسفة ليكونوا قادرين على نقد ما يواجهون من حضارة وفكر جديدين، وفي غير هذه الحالة سيتحول هذا الشخص الى مخرب لا مصلح. ويقول السيد، حتى لو أخذ هؤلاء الجيد من أفكار الآخرين، واطلعوا على تصوراتهم الراقية فكذلك يخطأون في الحكم، لأنهم لا يملكون شخصية مستقلة وغير قادرين على الابتكار والابداع. ([64]) إن آراء السيد هنا تطابق تقريباً ما جاء في نظرية التغيير الاجتماعي وتشابه افكار بعض المنظرين، أمثال (جون كارل) و(لرنر)([65])، إذ يجب على الفرد أولاً تخليص الروح والنفس والفكر من بقايا الثقافة والمجتمع المتخلفين، وتغذيتها بفكر جديد وتجارب ايجابية، ولا يجوز لهذا الشخص أن يدعي الاصلاح إلا بعد التوافر على خصائص وشروط المصلحين. يقول السيد: »بمجرد قراءة الكتب السياسية، ومعاشرة السياسيين والعقلاء لا يصبح الشخص (بسمارك)، لماذا؟ لأن تحول العقل من وضع الى وضع جديد يتطلب قروناً من التعليم والتربية«. ([66]) يظهر مما تقدم إن السيد قد انتقد كلا المجموعتين متهماً اياهما بالسطحية والبساطة. فالمجموعة الأولى غير قادرة على تحليل الظواهر الاجتماعية، ومعرفة اسباب وعلل انحطاط وترقي الأمم. والمجموعة الأخرى تقلد ما مرت به أوروبا من تحولات، ويعتقدون ان القدرات الفكرية والعلمية كافية لتشخيص الداء وتعيين الدواء. ومشكلة هؤلاء إنهم يفتقرون الى الاستقلال والإبداع. ([67]) ويعتقد السيد ان في ظل هذه الظروف وكثرة المشاكل التي تمر بها (أمم الشرق) لا تنفع سوى (الصرخة) و(زمجرة الرعد) لايقاظ الناس من (نومة الغفلة)، وزعزعة (الطبيعة الجامدة)، وتحريك (الأفكار المتكلسة)، واحياء (الارواح نصف الميتة)، ووضعهم أمام مسؤولية اصلاح بلدانهم)([68]). إن هذا الأمر الخطير مطلوب من المجموعة الثالثة، أي تقع مسؤوليته على عاتق المصلحين الحقيقيين، والمجددين في الفكر الديني، وزعماء الاصلاح في البلاد الاسلامية([69])، من أمثال الأسد آبادي، فأي شخص ينبغي أن (لا يكتفي بمشاهدة الظواهر، بل يبحث عن حقيقتها وأسبابها، وأن يتعرف على الوسائل والإمكانات التي خلقها الله تعالى من أجل تقدم الأمم، وينبغي أن يفهم إن الأمم الخالدة قد استفادت من تلك الإمكانات، والأمم التي فنت لم تهتم بها).([70]) المجموعة الثالثة: هؤلاء يعللون ما يحصل من تحولات اجتماعية على أساس الحكمة الإلهية، فيقولون: (إن الله حكيم وعالم وقد ربط كل حادثة او ظاهرة بسببها وعلتها، فالسلوك والأعمال الحسنة ناشئة عن الفضائل والفكر الحسن…).([71]) ففي نظر السيد إن الصفات والخصائص التي ينبغي أن يتوافر عليها المصلح، هي أنه كالطبيب، يجب أن يكون خبيراً بالتاريخ، فلسفة التاريخ، علم الاجتماع، علم النفس الاجتماعي، الاخلاق، الفضائل، الفلسفة والسياسة. وينقل الشيخ محمد عبده عن السيد جمال الدين قوله: إن (من الأفضل لطبيب النفوس والأرواح الذي ينهض لتوجيه المجتمع، أن يطلع على تاريخ الامة ليتمكن من توجيه ابنائه، ويطلع على تاريخ الآخرين ليتعرف على سر التقدم والانحطاط على طول التاريخ، ويعرف الاتجاه الاخلاقي لكي يشخص اسباب امراض المجتمع ...).([72]) (أما إذا كان الطبيب جاهلاً، فسيجر الأمة الى الحضيض، نتيجة للجهل ستنتشر الأخلاق الفاسدة بين صفوف الأمة باعتبارها اخلاقاً حسنة ...). ([73]) ويرجع السيد جمال الدين صعوبة طريق النهضة والاصلاح الى عمق غفلة ونوم المسلمين، وغلبة الجهل والأميّة، والظلم والاستبداد، ووجود الفرقة، إضافة الى العادات والطبائع المختلفة. وعندما يعالج السيد هذه الأزمة لا ينسى النخبة ودورها الفاعل في التغيير، لذا يقول إن هذا العمل بحاجة الى (رجال خبراء) و(رجال فعالين) يعملون بهمّة عالية وإرادة محكمة، وإيمان قوي، ورغبة في الفداء والتضحية، ولا يتهيبون صعوبات الطريق، ويفضل (مجاهدة النفس) و(الموت بشرف) على حياة الحيوان([74]) لأن (طريق الحق والعدالة) اصبح ـ بسبب غلبة الاستبداد والأقوياء ـ طريق الشهادة والتضحية، ومن يسلك هذا الطريق عليه أن يستعد لمواجهة الصعوبات والحرمان، وعليه (أن يواصل الطريق حتى يحقق أهدافه). ([75]) وقد واجه السيد في هذا الطريق طوال حياته السجن والتبعيد والهجرة من بلد الى بلد، أو كما يقول: (الغريب في البلدان والطريد عن الأوطان)([76]). لكنه يقول: (المصلح والقائد لا ينهزم، ولا تزلزله متاعب اللؤماء، سجن الظلمة للمصلح رياضة، والتبعيد سياحة، وقتله شهادة، وهذه تعد من الدرجات العلى). ([77]) والسيد يعتقد إن المصلحين الحقيقيين قلة، ومثلهم النخبة، فيقول على الرغم من كثرة الرجال (الذين ينهضون، لاحياء الأمة وارجاع شرفها وعزتها، قليلون، وإن كان الظاهر كثرة هؤلاء الرجال) ([78]). أي إن الذين يدّعون الاصلاح كثيرون، لكن ليس لدعواهم مصداقية في الواقع، بل يعملون على تفرقة الأمة وتخلفها وانحطاطها. ([79]) ثالثاً: مباني وأهداف الاصلاح أول ما قام به الأسدآبادي، هو نقد الحلول المطروحة من قبل مدعي الاصلاح، وكتب إن بعض هؤلاء يعتقد ان (مرض الأمة والشعب) يعالج بـ (اصدار الصحف والمجلات)، وإن ذلك سيكون سبباً ليقظتهم ونهضتهم. غير إن السيد يعتقد ان ذلك لا يكفي، لسعة انتشار الجهل والغفلة وسط الأمة([80]). لكنه رغم ذلك يؤكد في مقالاته وكتاباته ضرورة النشاط الأدبي والفني والثقافي، من قبيل اصدار الصحف والمجلات، وقد فعل ذلك عدد كبير من اصحابه في مصر والهند وافغانستان وسائر البلاد الأخرى، كما إنه قام باصدار مجلتي (العروة الوثقى) و(ضياء الخافقين)، وكتب مجموعة كبيرة من المقالات([81]). والواقع إن السيد باعتباره قائد ثورة، كان له دور كبير في تغيير العقول القديمة والمتخلفة، والاصلاح السياسي. وكان يؤيد نظرية التغيير الاجتماعي([82])، ويرى لوسائل الاعلام دوراً كبيراً في عملية الاصلاح والتغيير الاجتماعي. لقد كتب السيد، في أول عدد من مجلة (معلم شفيق)، ـ التي كانت تصدر بفضل جهوده وجهود أصحابه في حيدر اباد 1880م ـ مقالة عن أهمية المجلة ودورها في سعادة الأمة، وفي ما يلي نقدم مقطعاً منها: (كل امة تحتاج دائماً من أجل سعادتها والحفاظ على مكانتها الى من يرشدها الى السعادة، وينبهها من الغفلة، ويصونها من الهبوط، ويسوقها الى الفضائل، ويقودها الى الكمال، ويمنعها عن الرذائل، ويزجرها عن النواقص، ويأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر، … وفي هذا الزمان لا يوجد من يتصف بجميع تلك الصفات وله كل هذه المزايا مثل الصحف اليومية).([83]) إن هذه الصحف تهتم عادة بـ (احوال الأمم وأخلاقها، وهدفها اصلاح شؤونها، وجلب السعادة والرفاه والأمن لجميع الأمم). ([84]) وبعد أن ذكر 19 فائدة للصحف([85])، وضع شروطهاً لمن يريد أن يتصدى لهذا العمل، من جملتها: ينبغي أن يكون محرر الصحيفة وكاتبها (عبداً للحق وليس عبداً للدرهم والدينار)، وإلا سينقل كل شيء، وحينئذ سيكون عدم وجود هذه الصحف افضل من وجودها([86]) وإذا كان هدف الصحفي مادياً فسينتشر الجهل والغفلة، وحينئذ لا يتبعه إلا قليل من القراء، الذين ليس بينهم سوى عدد ممن يدرك الحقائق، وأغلبهم من عبدة الدنيا. ومن الاسباب الاخرى لعدم فاعلية هذه الأدوات في الشرق، إضافة الى ما تقدم، هو وجود الموانع السياسية. وقد أكد السيد في العروة الوثقى ضرورة وأهمية هذه الوسائل في عمليات الاصلاح والتجديد والتنمية السياسية. ([87]) ويرى آخرون إن علاج هذا المرض مرهون بفتح مدارس عامة في جميع انحاء البلاد الاسلامية، مدارس تشبه مدارس اوروبا، تروّج الثقافة والعلوم الجديدة. لكن السيد كان يعتقد ـ ولاسيما في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ـ بعدم إمكان ذلك في ظل الأنظمة المنحطة والضعيفة والرجعية التي تحكم البلاد الإسلامية، لأن تنفيذ هذا المشروع يحتاج الى قيادة مستقرة ونظام يؤيد الاصلاح والتجديد، ورغم تلك الحقائق فإن السيد كان يؤيد هذه الخطوة، ويرى لها دوراً ايجابياً في الاصلاح والتغيير الاجتماعي والتنمية. ويقول إن هذا العمل الكبير لا يمكن انجازه إلا بواسطة ملك أو حاكم قوي، يجبر الناس على قبول المشروع، هذا أولاً، وثانياً إن هذا المشروع يحتاج الى مبالغ طائلة، وبحثنا هو حول (ضعف ومرض أمة ضعيفة ومفككة)، فهكذا امة تفتقر الى (القدرة) و(الثروة)، ولو كانت تملك ذلك لما كانت ضعيفة ومتخلفة([88]). ويمكن لمؤيدي هذا المشروع أن يقولوا بإمكان انجازه بالتدريج وبشكل مستمر، وهي طريقة جيدة، لكن السيد يشترط أن (يبتعد الأقوياء لكي يشق المشروع طريقه)([89]). ولعل ابرز مصداق لطمع الاقوياء والاجانب في تصديهم لمنع هكذا مدارس جديدة، هو تجربة امير كبير حينما أراد فتح دار الفنون في ايران. من جهة اخرى يرى السيد ان ما يعيق المشروع هو إن الأمة لازالت غير مهيأة لدراسة هكذا علوم ولم تدخل هذه المرحلة([90])، يقول: (هذه الأمة لازالت بعيدة جداً عن حقائق العلوم الجديدة، فكيف يمكن بذر بذور هذه الأفكار والفنون في أرضها؟ وكيف نسقيها ماء؟ وكيف تنمو؟ وبأي ماء نسقيها؟ ومن أي أرض نغذيها؟)([91]). ولو قدّر إمكان ذلك، فـ (هل يمكن أن نقول إن عقول افراد الأمة ستتنور عندما تلتقي فجأة بهذه العلوم الجديدة، وستترسخ تلك العلوم في أذهانهم المملوءة بأشياء كثيرة؟ هل يقدرون على تصحيح أخلاق اولئك ليتمكنوا من تعليم أبناء وطنهم بموفقية؟)([92]). وبعد أن أشار الأسد ابادي الى الظروف غير المناسبة لاقتباس تلك العلوم، ذكر نقطتين: (مع استئناس الشخص بالخرافات والأوهام منذ طفولته، ومع احساسه بعظمة الامم التي تمتلك تلك العلوم، سيكون وجوده وسط تلك الأمة وجوداً غير مناسب).([93]) ويضرب السيد مثالاً بالعثمانيين والمصريين الذين فشلو ا في التجربة لعدم توافرهم على الشروط اللازمة. ([94]) وكان السيد ينطلق في مناقشته لهذه الحلول من اطاره الفكري المستقل، ومن ادراكه لأهمية تلك العلوم وارتباطها بعضها مع بعض، ومعرفته بدورها في تاريخ التحولات الاجتماعية والثقافية والحضارية لأوروبا والغرب، وكذلك كان يلاحظ الشروط الذهنية والاجتماعية اللازمة للفرد، وعلى هذا يكون طريقه هو طريق التجديد والاصلاح الديني واحياء الفكر والمعرفة الدينية، الذي يغاير خط التغريب([95])، والمعاصرة([96]) وشبه المعاصرة. والسيد جمال وإن كان يعد من ابرز متنوري العالم الاسلامي، كما صنفه موافقوه ومخالفوه ـ كل حسب أدلته ـ على فئة المتنورين وليس على فئة الروحانيين، لكن رغم ذلك هو ينتقد مؤيدي اتباع الحضارة الغربية، والمتغربين والمتنورين الذين يبنون التجديد على الظواهر، ويلغون الفرضيات والنظريات العلمية والدين والفلسفة. ومن جهة أخرى، فإن السيد جمال ينتمي الى الروحانيين الاسلاميين التقليديين فكرياً وعقائدياً لذا يستدل بعض موافقيه ومخالفيه على انتمائه الصنفي لهذه الفئة، غير إن السيد ينتقد هؤلاء كذلك لعدم مراعاة مقتضيات الزمان في الأحكام. إذن فكلا الطائفتين كان السيد يدعوهم الى التجديد والاصلاح في المجتمعات الاسلامية، والاهتمام بالتنمية الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، على أن يجري كل ذلك في اطار الفكر والمعرفة الدينية. ملامح المشروع الاصلاحي وبعد أن انتقد السيد طرق اصلاح المجددين والمتنورين، الذين يلتقي معهم في أصل الاصلاح، لم يبحث الاصلاح من الناحية النظرية بحثاً تفصيلياً، كما إن معظم المشاريع الاصلاحية في اوروبا او اسيا لازالت قيد التنفيذ خلال حياته او انها انجزت بعد وفاته([97]) لذلك لا يمكن اعتمادها نموذجاً لذلك.([98]) اما ما هي الاهداف والأسس التي اعتمدها في الاصلاح والتي يمكن استنتاجها من خلال ما كتبه او ما قاله؟ إن الاسد ابادي في فلسفته السياسية والاجتماعية لا يعتمد في تشخيص اسباب بقاء او زوال الأمم على عامل واحد، بل يرى أن هناك عدة عوامل تشترك مترابطة في ذلك، كما يعتمد في الاصلاح الأصول المبتنية على الحق، العدل، الحكمة، الدين، الأمة، الإمامة. ([99]) ويرى أن نيل السعادة، الذي هو الهدف، يتحقق عبر (إدارة واحدة) للأمة، و(روحية واحدة) و(قوة محركة) واحدة لجميع الطبقات.. يقول: (إذا رأيت أمة أو قوماً تحت زعامة واحدة، وجميع طبقاتها ـ رغم تعدد افرادها ـ كشخص واحد في تعاونهم وتعاضدهم، وحيوية وقوة محركة لجميع الأصناف واحدة … فهؤلاء سينتهون الى السعادة العامة…).([100]) ثم بعد ذلك يذكر الأبعاد الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتنموية، ويعتبرها معلولة لعلل متعددة، إلا أن تلك العلل متناسبة ومتوافقة فيما بينها، يقول: (أفعال وأعمال الإنسان وكيفية معاشرته وطبيعته الاجتماعية والمحيط ونوع المعيشة ومنهجه في الإدارة جميعها معلولة لأفكاره العقلية وأحاسيسه المعنوية والصفات الإنسانية، وإذا انعدم الانسجام بين العلل لا يحصل التوافق في المعلولات...)([101]). والذي يحققه الدين في هذا المجال هو المنهج الصحيح للتمدن والرقي، يقول: (الدين مطلقاً هو سبب سعادة الإنسان، فإذا طبق وفق أسس محكمة، فسيكون سبباً للسعادة التامة والرفاهية الكاملة...). ([102]) لذا كان السيد في صدد احياء الدين وتجديد الحياة الإسلامية وايقاظ المسلمين. فهو يعتقد أن المسلمين بعقائدهم التي تعلموها من الصالحين، وما رسخ في أذهانهم من أحكام الإسلام، لا يحتاجون إلا الى شيء من التنبيه لكي يبدأوا بنهضة مهمة تعيد لهم عزتهم، حتى يحققوا مقاماً لائقاً ومقبولاً عند الله تعالى. ([103]) وطريق الحل الذي يرسمه من أجل نهضة فكرية ـ سياسية هو العودة الى (قواعد الدين الأساسية) واعتماد العقل، واجراء الأحكام بدقة، والتركيز على وحدة وانسجام المجتمعات الاسلامية، اضافة الى المعرفة الدينية والعدالة والأخلاق الفاضلة، فيقول: (الطريق الوحيد لعلاج مرض الأمم الإسلامية، هو الرجوع الى قواعد الدين الأساسية، واجراء أحكامه بدقة، ترافقها الموعظة الحسنة من أجل صقل القلوب وتهذيب الأخلاق، واشعال نار الغيرة، والاتحاد، وايقاظ الأرواح، فإن ذلك يؤثر في الحصول على الشرف والفخر, ودفع الناس للتعرف على حقائق الدين).([104]) وفي نظر السيد، إذا تمكن شخص أن يوقد الفكر الديني في عقول جماعة، فسيستنهضهم ـ من أجل انقاذهم ـ بأقصر وقت، وسينالون الصلاح والفلاح والسعادة والكمال.([105]) لذا أكد السيد أهمية جميع الوسائل الفاعلة في هذا الطريق، من قبيل الصحف والمجلات او تأسيس المدارس واكتساب العلوم والفنون. واشاعة التعليم بشكل عام بهدف ايجاد ذهنيات ثقافية قوية قادرة على النمو الثقافي والاجتماعي. كما كان السيد يسعى لرفع الموانع السياسية والاقتصادية، كالحكم الاستبدادي والصعوبات الاقتصادية والادارية، والنظام الاقتصادي العالمي غير العادل، والاستعمار الغربي، كل ذلك من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية ـ السياسية للأمة والعالم الاسلامي. إن السيد الأسد آبادي من القائلين بالمكانة العالية للدين، العقل، العلم، الأخلاق، العدالة، الإمامة والقيادة، في المجتمع والأمة. ويعطي للنخبة، من علماء الدين، المفكرين، اساتذة العلوم العقلية والمعارف والعلوم الحديثة والأخلاق ... دوراً أساساً في عملية التغيير الاجتماعي والسياسي، كما يحمل المفكرين والمثقفين مسؤولية جسيمة ... يقول: (إن العلة الحقيقية والسبب الأساس للسعادة الكاملة لكل أمة من ألأمم هو العقل والبصيرة والنزاهة، واستقامة أخلاق هذه الأمة. وهذه العلة هي الموجب للشفاء وازالة الاضطراب...).([106]) وبهذا الخصوص يرى السيد ان للعلماء والقيادات الدينية دوراً مؤثراً في المجتمعات الاسلامية، يقول: (في الحقيقة إن قادة ومحيي ومحركي أية أمة، هم علماؤها وأئمتها ...).([107]) ويرى الأسد آبادي أن الاصلاح مرهون بإصلاح علماء العالم الاسلامي، يقول: (لا يصلح المسلمون ما لم يصلح زعماء الدين أنفسهم، ومالم يستفيدوا من علومهم ومعارفهم، والحقيقة أنما حصل لدينا من تخلف وغرور، كان قد حصل لعلماء وزعماء الدين أولاً، وهذا الأمر يشمل جميع الأمم). ([108]) أما بالنسبة الى علماء ايران الذين كانوا في صراع دائم مع سياسة الدولة والأجانب([109])، فقد كتب الأسد ابادي رسالة الى احد علمائها كان قد فر من ناصر الدين واقام في مصر، تحت عنوان (من المسؤول عن أوضاع ايران)، فالسيد في هذه الرسالة يرى ـ خلافاً لهذا الشخص ـ إن سبب التخلف هو عدم مخالفة العلماء لسياسة الدول، فقد جاء في الرسالة: متى ما أرادت الدولة التجديد والاصلاح في المدارس، أو أرادت أن تؤسس المشاريع مثل السكك الحديدية والمستشفيات، أو اصلاح الأمور الادارية والسياسية نظير (مجلس الشورى)، متى أرادات (الدولة) ذلك وخالف العلماء؟ ولو أن بعضاً خالف ذلك كان السبب الأساس للتخلف...). ([110]) فالسيد يعتمد في اصلاح التنمية الاجتماعية ـ السياسية على أصول مثل: ايجاد الأمة، الترابط بين الدين والسياسة، الموازنة بين الحرية والأصالة، الموائمة بين الفرد والمجتمع، العدالة الاجتماعية، الاستقلال، العقل، الأمة والقيادة. وقد أكد اهمية تلك الأمور في عملية التغيير الاجتماعي. ففي ثورة (التنباك) في ايران 1891م، التي كان لها أثر كبير في اسقاط الحكم القاجاري، كان السيد يؤكد للميرزا الشيرازي على الدور القيادي للعلماء وتأثيرهم في تحقيق (الاتحاد الحقيقي) ودفع الاستبداد والاستعمار، فجاء في الرسالة: (وحتى لو انتقد العلماء هذا الرجل الأحمق والخائن بشدة، إلا أنهم لا يستطيعون أن يتفقوا على هدف واحد، لأن هؤلاء العلماء من حيث العلم والوجاهة بين الناس في درجة واحدة، لذا ليسوا مستعدين أن يتحدوا ويتعاونوا في اتحاد حقيقي وقدرة اجتماعية من أجل دفع العدو والحفاظ على البلد. فكل منهم يتحرك في دائرته ويناضل في خندقه، إن هذا التشتت في الآراء هو العلة الحقيقية وراء الضعف، ووراء ازدياد الأعمال اللامشروعة). ([111]) لذا كان يطلب من الميرزا أن يقود هذه الحركة، وبالطبع عندما كانت حركة (التنباك) حركة ضد الاستعمار، فهي حركة ضد الاستبداد وقد حققت أهدافها، لكن الحركة الدستورية التي وقعت في ايران 1905 ـ 1909 والتي كانت حركة ضد الاستبداد مباشرة، قد فشلت نتيجة لعاملين: 1ـ عدم وجود القيادة الموحدة. 2ـ التشتت. وعلى كل حال، فإن السيد يعتقد: (إذا كانت قوة العلماء ضعيفة في مكان ما فإن قدرة الأوروبيين ستكون أكبر هناك). ([112]) ورغم إن السيد جمال الدين افنى أكثر أيام عمره في الاصلاح من أعلى هرم السلطة والدول الاسلامية، إلا انه لم يتراجع عن أهدافه في التجديد والثورة، ولازال يثق بشكل متزايد بالطبقات المتوسطة من العلماء المتواضعين والتجار والفلاحين وبقية القوى الاجتماعية، في ثورته ضد الانحطاط السياسي ـ الاقتصادي، الظالم، المرتبط بالاستعمار، والمعيق للتجديد والتنمية. فقد جاء في آخر رسالة له من سجن الباب العالي في اسطنبول، بعد ان أنتقد نفسه: »يا ليتني بذرت جميع تلك البذور، التي بذرتها في أرض سبخة (سبخة السلطنة) هذه (الأرض العمياء)، في مزرعة مستعدة لتقبل أفكار الأمة« ([113])، وجاء في خطاب له لأحد أصدقائه: (قوّضوا أسس الحكومة المطلقة، خرّبوا ما تتمكنوا أسس الحكومة المطلقة، لكن لا باجتثاث وقتل الأفراد...).([114]) نظام الحكم المختار إن منهج السيد جمال الدين في معاداته الاستبداد، لا يعني مطالبته بنظام دستوري محدد، فلم يرفع راية نظام سياسي محدد، وإنما أيّد النظام الملكي المشروط، والحكم البرلماني والحكومة القانونية. ولكن يمكن أن نستنتج انه كان يرغب بحكومة ليست ليبرالية غربية أو نظاماً ملكياً مطلقاً، وإنما حكومة مبتنية على أسس الفكر الديني الموجه للنظام السياسي وأهدافه، وباعتماد الأمة والإمامة، وفي اطار النظام الجمهوري. فقد جاء في برقية السفير الانجليزي في ايران الى وزير خارجية بلاده (1901)، إن هناك مجموعتين مخالفتين للصدر الأعظم امين الدولة، منها: جماعة (الاتحاد الاسلامي) التي أرسى اسسها السيد جمال الدين الاسد ابادي، الذي يطالب (بإنهاء الحكم القاجاري واقرار النظام الجمهوري الاسلامي، واتحاد مع الدولة العثمانية). ([115]) فعلى هذا يطالب السيد باصلاح امور المسلمين والتنمية الشاملة لجميع الأمم الاسلامية على أساس مباني الفكر والثقافة الدينيتين ... يقول: (كل ما قلته أو أقوله وعملته أو أعمله، هو من أجل خير أمة محمد، محضاً وصرفاً، من غير أنانية ... أنا لا أريد أن أصبح الصدر الأعظم، لا أريد أن اصبح وزيراً، ولا أريد أن أكون من أركان الدولة، لا أريد وظيفة، أنا ليس لي عيال، ليس لي ملك، ولا أريد ذلك .. الكثير اعتلى مناصب رفيعة بسببي ... فليس لي هدف إلا الإصلاح والنصيحة) ([116])، (أنا في هذا العالم، سواء في الغرب أو في الشرق، ليس لي هدف إلا اصلاح المسلمين دنيا وآخرة أمنيتي أن يراق دمي، كالشهداء الصالحين، على هذا الطريق).([117])