جمال الدين الأفغاني وطريق النهوض والاستنارة بالإسلام الدكتور محمد عمارة جمال الدين الأفغاني (1254 –1314هـ 1828 – 1838) هو جمال الدين بن صفتر بن علي بن مير رضي الدين الحسيني. أعظم رواد اليقظة الإسلامية الحديثة، وأبو الصحوة الإسلامية المعاصرة، وأپرز قادة الحركة الإصلاحية الإسلامية، ومن طلائع المجددين للفكر الاسلامي في العصر الحديث. عربي الأصل هاشمي النسب، يرتفع نسبه إلى الإمام الحسين بن علي بن أپي طالب رضي الله عنهما. ولد في »اسعد آپاد« بخطة »كنر« من أعمال »كابل« ببلاد الافغان في أسرة ذات نفوذ سياسي واداري وفي الثامنة من عمره انتقل – مع الأسرة – إلى العاصمة »كابل« عندما خشى امير البلاد »دوست محمدخان« نفوذ أسرته في منطقتها.. وفي »كابل« أشرف والده على تعليمه. وعندما بلغ الثامنة عشرة من عمره كان قد درس مبادئ العلوم العربية والتاريخ وعلوم الشريعة من تفسير وحديث وفقه واصول وكلام وتصوف، والعلوم العقلية، من منطق وحكمة عملية سياسية ومنزلية وتهذيبية، وحكمة نظرية طبيعية والهية، والعلوم الرياضية من حساب وهندسة وجبر وهيئة أفلاك، وأيضا نظريات الطب والتشريح!. وبحكم الشتات الذي فرض على أسرته، أتيحت له فرص الدراسة في »الحوزات العلمية« بالعراق، والسياحة في الهند والإقامة حيناً من الدهر في إيران – مع الأسرة المهاجرة في »أسد آباد«. ولقد أجاد من اللغات، غير العربية والفارسية والافغانية: التركية والفرنسية، مع المام بالانجليزية والروسية. وفي ظل حكم المير الافغاني الوطني »محمد أعظم خان« تولى جمال الدين منصب »الوزير الاول« ـ رئيس الوزراء ـ وقاد معارك حربية ضد الغزو الانجليزي لبلاد الافغان.. فلما هزم »محمد اعظم خان«، وحكم خصمه، الموالي للانجليز، »شير علي« بدأت سياحة جمال الدين في عالم الاسلام. فتنقل من الهند إلى مصر إلى الآستانة إلى الحجاز إلى العراق إلى إيران إلى روسيا إلى باريس ولندن، داعياً إلى الاحياء والتجديد للفكر الاسلامي، وإلى إيقاظ الأمة الإسلامية من سباتها، وفك قيود الجمود والتقليد، والاقلاع من التخلف الموروث إلى النهوض الاسلامي، لمواجهة الاعصار الاستعماري الغربي الزاحف على ديار الاسلام.. وكان – في سبيل ذلك – مزكياً لمنهاج الشورى والحرية في إدارة شؤون الامة وتدبير سياسات حكوماتها، وموقد للثورات في وجه الإستبداد الداخلي والإستعمار الغربي الزاحف على الشرق الاسلامي. ومع ايمانه بدور العامة والجماهير في الثورة والاصلاح، فلقد كان ابرز صنّاع النخبة والصفوة الاسلامية، التي قادت حركة الجامعة الإسلامية على امتداد وطن العروبة وعالم الاسلام لعدة قرون، مجددة للفكر، وقائدة لحركات التحرر الوطني، وداعية إلى الاصلاح الاجتماعي، ومفجرة للعديد من الثورات.. حتى لقد كانت صناعته الاولى هي صناعة الرجال! ولقد كانت السنوات التي عاشها الأفغاني بمصر (1288 – 1296هـ 1871 – 1879م) – هي اخصب السنوات في تاريخ انجازاته الفكرية والسياسية.. ففيها ربى نخبة من العقول التي جددت فكر الاسلام وحياة المسلمين – وفي مقدمتهم الإمام محمد عبده (1265 – 1323 هـ 1849 – 1905م) وشرح من كتب الفلسفة والكلام والمنطق ما أعاد للحياة الفكرية قسمة العقلانية الإسلامية، التي غابت عنها منذ عصر التراجع الحضاري للمسلمين. ونشأت على يديه مدرسة في الصحافة الأهلية الحرة – غير الحكومية – وتيّار شعبي لمعارضة الاستبداد الداخلي، وللثورة على النفوذ الاجنبي – الاقتصادي والسياسي والعسكري – الزاحف على ديار الاسلام.. بل لقد عرفت مصر – على يديه وبقيادته – طلائع التنظيمات السياسية – (الحزب الوطني الحر) – في تلك الفترة المبكرة من نشأة الاحزاب. وبضغوط من الدول الاستعمارية – وخاصة انجلترا، التي كانت تحضّر لاحتلال مصر – خضع الخديوي توفيق (1268 – 1309هـ 1852 – 1892م) فنفى جمال الدين من مصر (1296هـ 1879م) – زاعماً أن الأفغاني يقود جماعة من ذوي الطيش، مجتمعة على فساد الدين والدنيا!!.. فذهب جمال الدين – منفياً – إلى الهند – وهي مستعمرة انجليزية – فمكث فيها، محددة اقامته من قبل حكومتها الانجليزية، حتى تمت هزيمة الثورة العرابية، واحتلال الانجليز لمصر (1299هـ 1882م). وعندئذ سمح له الانجليز بمغادرة الهند، فسافر إلى باريس – العاصمة المنافسة لانجلترا – وهناك لحق به الشيخ محمد عبده – وكان منفياً ببيروت، بعد هزيمة العرابيين ومحاكمتهم – ومن باريس اصدرا مجلة (العروة الوثقى) لتعبر عن فكر وسياسة التنظيم السري الذي أقامه الافغاني، لمواجهة الاستعمار الانجليزي، وانها ضد المسلمين.. وهو التنظيم الذي امتدت »عقوده – خلاياه) إلى اغلب بلاد المسلمين – وخاصة مصر والهند - والذي استقطب صفوة العلماء المجددين والأمراء والساسة المجاهدين – تنظيم (جمعية العروة الوثقى) – فكان هذا التنظيم ومجلته أهم مدارس الوطنية الإسلامية والبحث الحضاري الإسلامي، التي تربى فيها وتعلم منها واستضاء بمنهاجها دعاة اليقظة والتجديد والاصلاح والثورة على امتداد عالم الاسلام. ولقد انتهى المطاف بالافغاني – بعد أن زرع التجديد والاحياء والثورة في أرجاء العالم الاسلامي.. وبعد أن صنع على عينه جيلا من القادة والعلماء والثوار والمجددين – انتهى به المطاف إلى »القفص السلطاني الذهبي« الى »الآستانة«!.. لكنه، وهو النسر المستعصي على قيود السلاطين، واسوار المدن، وجغرافية الاوطان، حاول تحرير ارادة السلطان عبد الحميد (1258 – 1226هـ 1842 – 1918م) من قبضة حاشيته الغارقة في الرجعية والفساد.. وسعى إلى بعث الروح في حركة الجامعة الاسلامية، لمناهضة الزحف الاستعماري على ولايات الدولة العثمانية .. وتطلع الى سد ثغرة الشقاق المذهبي والسياسي بين ايران ودولة الخلاقة الاسلامية، لقطع الطريق على الاستعمار، الذي يخترق الوجود الاسلامي من مثل هذه الثغرات! وظل الأفغاني قائماً بفريضة الجهاد على هذه الجبهات ـ التجديد الفكري .. واليقظة الملية .. والتصدي للاستعمار .. وكسر قيود الاستبداد ـ حتى وافاه الأجل، فلقى ربه ـ في الساعة السابعة والدقيقة الثالثة عشرة، من صبيحة يوم الثلاثاء 5 شوال 1314 هـ / 9 مارس 1897م ـ .. ودفن في الاستانة .. ثم نقل جثمانه ـ بعد سنوات ـ الى بلاده الافغان. * * * ولقد ترجم له، وتحدث عنه أعرف الناس به، وأقربهم اليه: الإمام محمد عبده، فقال ـ ضمن ما قال: »هو السيد محمد جمال الدين، بن السيد صفتر، من بيت عظيم من بلاد الافغان ... حنفيّ حنيفي، وهو وإن لم يكن في عقيدته مقلداً، لكنه لم يفارق السنة الصحيحة، مع ميل الى مذهب السادة الصوفية .. يمثل لناظره عربياً محضاً من أهالي الحرمين، فكأنما قد حفظت له صورة آبائه الأولية سكنة الحجاز .. وكان مقصده السياسي، مدة حياته: انهاض دولة إسلامية من ضعفها، حتى تلحق الأمة بالأمم العزيزة والدولة القوية، فيعود للاسلام شأنه وللدين الحنيفي مجده .. أما اخلاقه، فسلامة في القلب سائدة في صفاته، وحلم عظيم يسع ما شاء الله أن يسع، الى أن يدنو منه أحد ليمسّ شرفه او دينه فينقلب الحلم الى غضب تنقض من الشهب! فبينما هو حليم أوّاب إذا هو أسد وثاب! وهو كريم، يبذل ما بيده، قوي الاعتماد على الله، لا يبالي ما تأتي به صروف الدهر. عظيم الأمانة، سهل لمن لا ينه، صعب على من خاشنه. طموح الى مقصده السياسي.. إذا لاحت له بارقة منه تعجّل السير للوصول اليه ـ وكثيراً ما كان التعجل علة الحرمان! وهو قليل الحرص على الدنيا، بعيد من الغرور بزخارفها، ولوع بعظائم الأمور، عزوف عن صغارها، شجاع مقدام، لا يهاب الموت، كأنه لا يعرفه! إلا أنه حديد المزاج ـ وكثيراً ما هدمت الحدة ما رفعته الفطنة! ـ .. إلا أنه صار في رسوّ الأطواد وثبات الاوتاد! فخور بنسبة إلى سيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم، لايعد لنفسه مزية أرفع ولا عزا أمنع من كونه سلالة ذلك البيت الطاهر. ولو قلت: إن ما آتاه الله من قوه الذهن وسعة العقل ونفوذ البصيرة هو أقصى ماقدر لغير الانبياء، لكنت غير مبالغ!.. فگأنه حقيقة كلية، تجلت في كل ذهن بما يلائمه، او قوة روحية، قامت لكل نظر بشكل يشاكله! لقد أتيت من لدنه حكمة أقلب بها القلوب وأعقل العقول…! وأعطاني حياة أشارك بها محمد او ابراهيم والاولياء والقديسين!!..«([118]). وإذا كانت هذه الكلمات – للامام محمد عبده.. عن جمال الدين الأفغاني – هي سطور من الصفحات التي كتبها أخبر الناس بالافغاني واقربهم إليه، وأعرفهم به وانضج الثمرات لأطيب البذور والتي غرسها هذا الفيلسوف العظيم.. فلقد كانت رؤية الافغاني لنفسه من البساطة بحيث تفتح البصائر على حقيقة الحياة التي عاشها والآثار التي تركها هذا الانسان العظيم.. لقد رأى نفسه »درويشا فقيرا، عابرا في هذه الحياة«! وكان يناجي نفسه فيقول: »أنت أيها الدرويش الفاني! مم تخشى؟!.. إذهب وشأنك، ولا تخف من السلطان، ولا تخش الشيطان!! إنه سيان عندي طال العمر أو قصر.. فإن هدفي أن أبلغ الغاية، وحينئذ أقول: فزت ورب الكعبة!..« ([119]). تلك سطور موجزة في سيرة العظيم جمال الدين!.. الإستنارة بالإسلام.. لا بالغرب وإذا كان الحديث عن ميادين الإصلاح، الذي دعا إليه جمال الدين الأفغاني ، إنما يحتاج اليه مجلدات – وهو قد كتب فيه الكثير – فإن مقاصد هذه الصفحات هي الإشارة إلى المنطلقات التي انطلق منها الافغاني إلى هذه الاصلاح. فقبل عصره، لم تكن هناك مرجعية للاصلاح والإجتهاد والتجديد والتغيير سوى الاسلام في سائر بلاد المسلمين.. فكل المذاهب كانت إسلامية، وكذلك كان سائر المصلحين والمجددين.. لكن الافغاني عاش وجاهد وسعى إلى الاصلاح في عصر اقتحمت فيه المرجعية الحضارية الغربية – الوضعية.. المادية.. اللادينية – اي العلمانية – ساحات ديار الاسلام.. واصبح لهذه المرجعية الغربية – كما تمثلت في »فلسفة التنوير الغربي العلماني« دعاة وانصار ومبشرون، يدعون إلى استبدالها – في النهضة – بالاسلام، ويفضلون الاستنارة بأنوارها على الاستنارة بالاسلام. لقد وجد الافغاني نفسه أمام خيارين في »المرجعية النهضوية«، وازاء »نموذجين للتنوير«: الف – التنوير الغربي – الوضعي.. وأحيانا المادي – الذي أقام قطيعة معرفية مع الموروث الديني، وذلك عندما أحل فلاسفته العقل والعلم والفلسفة محل الله والكنيسة واللاهوت.. وأعلنوا أنه لا سلطان على العقل إلا للعقل وحده.. وجاهروا بأن استخدام المصطلحات الدينية لا يعني التخلي عن هذه القطيعة المعرفية مع الدين. »فبعد أن كان المسيحي حريصاً على طاعة الله وكتابه، ولم يعد الانسان يخضع الا لعقله.. فأيديولوجية التنوير قد أقامت القطيعة الابستمولوجية (المعرفية) الكبرى التي تفصل بين عصرين من الروح البشرية: عصر الخلاصة اللاهوتية للقديس (توما الأكويني)، وعصر الموسوعة لفلاسفة التنوير.. فمنذ الآن فصاعدا راح الأمل بممكلة الله ينزاح لكي يخلي المكان لتقدم عصر العقل وهيمنته. وهكذا راح نظام النعمة الإلهية ينمحي ويتلاشى أمام نظام الطبيعة.. لقد أصبح الانسان وحده مقياساً للانسان.. واصبح حكم الله خاضعاً لحكم الوعي البشري، الذي يطلق الحكم الأخير باسم الحرية.. ويمكن للمعجم اللاهوتي القديم أن يستمر، ولكنه لم يعد يوهم احدا، فنفس الكلمات لم يعد لها نفس المعاني«؟!([120]). وجدت أمتنا – وهي تتحسس طريقها لليقظة والنهوض – نفسها أمام هذا الخيار للتنوير الغربي – الوضعي .. العلماني – الذي يقيم قطيعة معرفية مع الدين، ويفرغ مصطلحات المعجم الديني – اذا هو استخدمها – مما لها من مضامين!! ب –التنوير الاسلامي - الجامع بين الشرع والعقل . بين الحكمة والشريعة.. بين آيات الله المنزلة وآياته المبثوثة في الأنفس والآفاق.. ولقد اختارت مدرسة الإحياء والتجديد التي تبلورت من حول موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام جمال الدين الأفغاني (1254 – 1314هـ 1838 – 1897م) – اختارت لأمتنا هذا الطريق.. طريق الاستنارة والتنوير بالإسلام، وليس بالقطيعة المعرفية مع الاسلام.. فهي قد رفضت غلو الجمود والتقليد، حتى ولو كان أصحابه قد امتازوا بتنقية العقيدة من البدع والإضافات والخرافات، لأنهم بمعاداة العقلانية الإسلامية لم يتجاوزوا مواقع التقليد، الذي جنى على حضارتنا العربية الإسلامية »فهذا الدين يطالب المتدينين أن يأخذوا بالبرهان في أصول دينهم، وكلما خاطب، خاطب العقل، وكلما حاكم، حاكم إلى العقل، تنطق نصوصه بأن السعادة من نتائج العقل والبصيرة، وأن الشقاء والضلالة من لواحق الغفلة واهمال العقل وانطفاء نور البصيرة.. فالعقل مشرق الايمان، ومن تحول عنه فقد دابر الايمان«([121]). وفي نفس الوقت، رفضت هذه المدرسة الإحيائية التجديدية عقلانية التنوير الغربي، تلك التي تأسست على النزعة الوضعية والمادية.. فوجهت شديد النقد لفلاسفة التنوير الغربي – من مثل »فولتير« (1694 – 1778م) و »رسو« (1712 – 1778م) – وقالت عن هذا التنوير: انه قد بعث مذهب اللذة.. والدهرية.. وبعبارة الافغاني: فلقد ظهر »ووليتر وروسو«، يزعمان حماية العدل ومغالبة الظلم، والقيام بانارة الافكار وهداية العقول، فنبشا قبر »ابيقور« الكلبي (341 – 270ق. م) واحييا مابلي من عظام الدهريين، ونبذا كل تكليف ديني، وغر سا بذور الاباحية والاشتراك، وزعما أن الآداب الالهية جعليات خرافية، كما زعما أن الأديان مخترعات أحدثها نقص العقل الانساني، وجهر كلاهما بانكار الالوهية، ورفع كل عقيرته بالتشنيع على الانبياء.. فأخذت هذه الاباطيل من نفوس الفرنساويين.. فنبذوا الديانة العيسوية.. وفتحوا على أنفسهم أبواب الشريعة المقدسة (في زعمهم) شريعة الطبيعة. ولقد بذل نابليون الاول جهده في اعادة الديانة المسيحية إلى ذلك الشعب، استدراكاً لشأنه، لكنه لم يستطع محو آثار تلك الاضاليل..« ([122]). ذلك هو رأي مدرسة التجديد الإسلامي في فلاسفة الأنوار الغربيين وفي تنويرهم المادي العلماني. ثم هي قد وجهت شديد النقد للمقلدين – من مثقفينا – لهذا التنوير الغربي .. فالمقلدون لتمدن الامم الاخرى – كما يقول الافغاني - : »ليسوا أرباب تلك العلوم التي ينقلونها، وإنما هم حملة، نقلة!.. لايراعون فيها النسبة بينها وبين مشارب الأمة وطباعها.. وهم ربما لا يقصدون إلا خيرا، إن كانوا من المخلصين!.. لكنهم يوسعون بذلك الخروق حتى تعود أبواباً.. لتداخل الأجانب فيهم.. فيذهبون بأمتهم إلى الفناء والاضمحلال وبئس المصير«([123]). بل إن الاستعارة والتقليد للنموذج الاجنبي – اذا كان الاجنبي غازياً مستعمراً – قد تتحول إلى ثغرات اختراق للامن الوطني والقومي والحضاري »فمتى طرق الأجانب أرضاً لأية امة، ترى هؤلاء المتعلمين المقلدين فيها اول من يقبلون عليهم ويعرضون انفسهم لخدمتهم.. كأنما هم منهم، ويعدون الغلبة الاجنبية في بلادهم اعظم بركة عليهم.. ولقد علمتنا التجارب أن المقلدين من كل أمة، المنتحلين اطوار غيرها، يكونون فيها منافذ لتطرق الاعداء اليها.. وطلائع لجيوش الغالبين وأرباب الغارات، ويمهدون لهم السبيل، ويفتحون الأبواب، ثم يلبون اوامرهم..« ([124]). وبعد النقد والنقض والرفض لفلسفة الأنوار الغربية.. والادانة لتقليدها واستعارتها سبيلا لنهضتنا.. قدّمت مدرسة الإحياء والتجديد المذهب الاسلامي في النهضة، المستنير بالتنوير الاسلامي، بديلا عن غلوى الافراط والتفريط – جمود المتنكرين للعقل والمنكرين للعقلانية.. وانصار التأليه للعقل، الذين استبدلوه بالدين. فالاسلام هو الحافز على النهوض.. وليس عقبة في سبيله، ذلك »إن الدين قد أكسب عقول البشر ثلاث عقائد، وأودع نفوسهم ثلاث خصال، كل منها ركن لوجود الأمم وعماد لبناء هيئتها الاجتماعية وأساس محكم لمدنيتها، وفي كل منها سائق يحث الشعوب والقبائل على التقدم لغايات الكمال والرقي إلى ذرى السعادة: العقيدة الاولى: التصديق بأن الانسان ملك ارضي، وهو أشرف المخلوقات.. والثانية: يقين كل ذي دين بأن أمته أشرف الامم.. والثالثة: جزمه بأن الانسان إنما ورد هذه الحياة الدنيا لاستحصال كمال يهيئه للعروج إلى عالم أرفع وأوسع من هذا العالم الدنيوي«([125]). فعقائد الدين هي الحافز على التقدم والنهوض والتدافع والتسابق والارتقاء. وهذا التقدم، الذي يحث عليه الدين – بسبب من توازنه وموازنته بين غرائز وملكات ومكونات الإنسان – هو وحده الكافل تحقيق السعادة لهذا الإنسان »فلم تبق ريبة أن الدين هو السبب المفرد لسعادة الانسان – السعادة التامة، يذهب بمعتقديه في جواد الكمال الصورى والمعنوي، ويصعد بهم إلى ذروة الفضل الظاهري والباطني، ويرفع أعلام المدنية لطلابها، بل يفيض على التمدن من ديم الكمال العقلي والنفسي ما يظفرهم بسعادة الدارين..« ([126]). واذا كانت الأمة العربية قد نهضت وعزت وسادت – قديماً – بالتنوير الاسلامي.. فإنه وحده، دون سواه، السبيل إلى اصلاح الخلل الحضاري الذي طرأ على مسيرتها.. »ارسل فكري إلى نشأة الامة التي خملت بعد نباهة.. واطلب أسباب نهوضها الاول.. انه دين قويم الاصول، محكم القواعد، شامل لانواع الحكم، باعث على الالفة، داع إلى المحبة، مزن للنفوس، مطهر للقلوب من ادران الخسائس، منور للعقول بإشراق الحق من مطالع قضاياه، كافل لكل ما يحتاج اليه الانسان من مباني الاجتماعات البشرية، وحافظ وجودها، ويتأدى بمعتقديه إلى جميع فروع المدنية.. فإن كانت هذه شرعة تلك الامة، ولها وردت وعنها صدرت، فما تراه من عارض خللها، وهبوط عن مكانتها، إنما يكون من طرح تلك الاصول ونبذها ظهريا ففلاحها الناجع! انما يكون برجوعها إلى قواعد دينها، والاخذ بأحكامه على ماكان في بدايته«. وحق بمنطق »المنفعة – والمصلحة.. والجدوى.. وفعالية النهضة.. وسرعة الإقلاع الحضاري«.. فإن طريق التنوير الاسلامي أقرب وأفعل – لأنه الموروث.. والمألوف .. والحاضر – من ذلك »التنوير الغربي« - الغريب.. والذي يستريب منه الجمهور. واذا كانت أمتنا قد جرّبت – عبر القرنين الماضيين – كل تجليات التنوير الغربي – من الليبرالية الرأسمالية.. إلى الشمولية الشيوعية.. إلى القومية الشيفونية.. إلى الأخلاط التي اصطنعت المزج بين هذه التجليات – فإننا مدعوون إلى تأمل هذا الذي بشرت به مدرسة الاحياء الاسلامي – قبل هذه التجارب الفاشلة – من »أن جراثيم الدين متأصلة في النفوس.. والقلوب مطمئنة اليه، وفي زواياها نور خفي من محبته، فلا يحتاج القائم باحياء الامة الا إلى نفخة واحدة يسرى نفسها في جميع الارواح لاقرب وقت.. فاذا قاموا، وجعلوا اصول دينهم الحقة نصب اعينهم، فلا يعجزهم أن يبلغوا في سيرهم منتهى الكمال الانساني..«. بل لقد بلغ الإعتقاد – عند مدرسة الإحياء والتجديد – بأن التنوير الاسلامي هو السبيل المفرد والطريق الاوحد لنهوض هذه الامة.. بلغ هذا الإعتقاد حد اليقين.. فقال الأفغاني: ».. ومن طلب اصلاح امة شأنها ماذكرنا بوسيلة سوى هذه، فقد ركب بها شططا، وجعل النهاية بداية، وانعكست التربية، وانعكس فيها نظام الوجود، فينعكس عليه القصد، ولايزيد الامة الا نحساً ولا يكسبها الا تعساً..«! ــ فهل كان الرجل يقرأ الحال الذي وصلنا اليه.. بعد التجارب الفاشلة التي انزلقنا اليها؟!.. انه يواصل حديثه – متعجباً من هؤلاء الذين سلكوا كل الطرق، سوى طريق التنوير الاسلامي، والنهوض بالاسلام – فيقول: ».. ومن يعجب من قولي: - إن الاصول الدينية الحقة تنشئ للأمم قوة الاتحاد، وائتلاف الشمل، وتفضيل الشرف على لذة الحياة، وتبعثها على اقتناء الفضائل، وتوسيع دائرة المعارف، وتنتهي بها إلى اقصى غاية في المدينة – فإن عجبي من عجبه اشد!.. ودونك تاريخ الأمة العربية.. وماكانت عليه قبل الإسلام من الهمجية. حتى جاءها الدين فوجدها، وقوّاها، ونوّر عقلها، وقوّم أخلاقها، وسدد أحكامها، فسادت على العالم!..« ([127]). فهو طريق التنوير الاسلامي.. السبيل الطبيعي – والوحيد – لنهوض هذه الامة.. ولا طريق سواه… واذا كان لنا – في ختام هذه الدراسة – أن نعقد المقارنة بين »التنوير الاسلامي« الذي دعا اليه جمال الدين الأفغاني وأعلام تيار الاحياء والتجديد بالإسلام – وبين »التنوير الغربي« - الوضعي.. والمادي.. والعلماني – الذي قامت على قواعده النهضة الغربية الحديثة.. وبشر به في بلادنا المتغربون من مثقفينا – فيكفي ان نستعيد ما سبقت إشارتنا اليه، من أن مقومات »التنوير الاسلامي« هي: 1ـ تحرير الارادة والضمير من العبودية لكل الطواغيت، بافراد الله، سبحانه وتعالى، بالعبودية – وفي ذلك قمة التحرير للانسان - . 2- اعتبار القرآن ـ أي »النقل« ـ والدين والشرع نور للبصر والبصيرة – اي »للعقل« الانساني ـ الامر الذي ينفي التناقض بينهما.. حتى ليصبح لا غناء ولا استغناء لأحدهما عن الآخر.. 3- الاستدلال والبرهنة والاعتبار على الحقائق الايمانية والعقائد الدينية بالآيات الكونية ـ المبثوثة في الآفاق ـ الكون ـ وبآيات الانفس ـ الخلق والاحياء والأماتة والبعث ـ وليس بآيات النقل والغيبيات. ان اختلاف المناهج، ومن ثمّ الحضارات، سنة من سنن الله التي لاتبديل لها ولا تحويل.. ولقد اختار الله سبحانه وتعالى لهذه الامة هذا المنهاج في النهضة والاحياء والتجديد، وذلك منذ اللحظة التاريخية والقدسية التي انفرجت فيها السماء عن »النور الملائكي« الحامل لوحي »النور القرآني« الى »النور النبوي«، والذي اكتمل في »نور الاسلام«.. فمنذ هذه اللحظة القدسية، في مطلع فجر الليلة المباركة- ليلة القدر – من رمضان 13 ق . هـ 610م.. كان ميلاد »التنوير الاسلامي«، الذي يستنير به كل المستنيرين بنور الاسلام .. وانطلاقا من المرجعية الإسلامية في »الخيار النهضوي« .. واستنارة »بالتنوير الاسلامي«، كانت السنة الحسنة التي سنها ودعا اليها جمال الدين الافغاني.. حتى لقد أصبح إماما ورائد للعلماء والأعلام والمجاهدين، وللدعوات والحركات التي رفضت التغريب والتبعية الحضارية للغرب، وانطلقت على طريق الإصلاح الإسلامي، تجدد دين الاسلام لتجدد به دنيا المسلمين!