جمال الدين أو بدايات المدرسة الفلسفية الإسلامية المعاصرة الدكتور علي زيعور الجامعة اللبنانية ـ كلية الآداب نداءات الفلسفة إلى التضافر والتظافر مع الثقافات داخل الدار العالمية للانسان 1ـ تعد المدرسة الفلسفية الإسلامية المعاصرة، المنطلقة من تراث عريق ونسغ معاصر ومستقبلي، الاسلام، في هذا العصر ومابعد، بمثابة دين وحضارات ووعي تاريخي. كما هو أيضا نسق من المعايير، ولوحة من القيم الروحية ومن المعاني للوجود والمعرفة والمستقبل. وهكذا فإن الاسلام يرى نفسه أساسياً، ومحركاً متميزاً أو ديناميات واستراتيجيات من اجل المجتمع البشري في حاضره وعلائقيته وحقائقه.. يعني هذا انه غير منعزل عن حركة العالم والتاريخ، وليس هو ايضا راغباً بالتفرد، ولا يرغب بالانسلاخ او بالانقفال، ولا يرد ان يحمل الى الامم والثقافات خطاباً مجابهاً بقدر ما هو يريد تجاوز كل خطاب »غربي« او غير غربي ذي نسغ أناني استنفاعي ومن ثم عدائي وتمددي… 2- لايعادي فكرنا الفلسفي المعاصر، والمستقبلي أيضا، مبدأ تكامل الثقافات، وتحاور النظر المحلي الأهلي مع بنية النظرالاجمعي الشمولاني. وهو يؤيّد توافق الامم، او توجّهات الفكر، على المساعي والاماني عند الانسان في بحثه المتواظب عن اكتساب المزيد اللامتلبث من العلم وشتى مايحقق التوكيد البشري. وتتلاقى الامم الرغبة بالانتصار على المعوقات، وعلى ماهو فاتر وسلبي وحتى على ماهو محتمل في دنيا التكيف الاسهامي مع الذات، ومع الآخر والعلائقية، ضمن الذمة المشتركة للمعمورة أو للوعي البشري السائر على طريق التعولم المتفاقم. 3- ترسخ في الاسلام، ومنذ سنواته التأسيسية الاولى، تيار عريض عميق يقول للمختلفين أن لهم »دينهم«. ومن الثابت هنا أن الأساس المتين حواري، تفاهمي، باحث عن ماهو سواء بين الأطراف. وحتى النسق العام يبدو متقبلا وانفتاحياً، استيعابياً ومتجاوزاً متمثلاً. فالبنى الواعية والضمنية للفكر والسلوك داخل الشخصية الدينية ما انفكن تعيد الصياغة، وتثمر الظواهر والتاريخ من أجل إعادة التأهيل والضبط. وكل ذلك على مبدأ أن فكرة الاله الخالد، الخالق السرمدي، محور وغاية أو أساس وتاج في المعنى المعطى للوجود، ولمكانة الانسان في العالم والقدر وأمام الخلود، وللعقل في اكتشاف الحقائق وتطوير المعاني. 4- عمّق الفكر الاسلامي المعاصر الفلسفي توسيع معنى »الدين الكتابي«. ففي المجرى للعلائقية مع المختلف والآخر جرى تمدد واستقبال استوعبا أمما عديدة. وهنا اعتبرت »كتابية« ثقافات ، وانتقلت الى دائرة السوي والمقبول »أديان« أو ملل ونحل.. فالفكر الديني الاسلامي، وكان هو القوي ولمدة قرون عديدة، استعاد الى الحظيرة المؤمنة البراهماني والصابئي والكونفوشي وآخرين، بحيث اعتبر هؤلاء بمثابة أديان متأسسة على نبوة. ربما تكون تأويلانية مفرطة هي هنا الأداة أو الآلة المفسرة، ولا غروه فالرؤية هنا تنطلق من معنى يقول أن القرآن لم يقصص على العالمين أخبار كل نبي، ولا كل الاخبار عن أي نبي واحد. بذلك انفتح هنا المدلول الموسع والمعاني المختلفة والتابعة والمتعددة الى درجة سهل عندها إدخال بوذا، ومؤسسين آخرين في عداد »الصالحين« الذين علّموا الانسان وقادوه الى حقول روحانية منفتحة على الخلود وعلى الخلاص أو النجاح الضروري للتوكيد الذاتي والتوزان النفسي الاجتماعي. 5- الفضاء الفكري الحضاري، في الوعي الديني الاسلامي ، عالميني([308]). أي هو خطاب الى العالمين بغض الطرف عن الزمان والمكان كما عن الملة والنحلة أو اللون والأمة. من السوي هنا التنبه الى أن ذلك الوعي الشامل الدينامي يمنح الانسان اعتداداً وامتلاء يحركان الإمكان والقابلية للتواصل الايجابي، ولاستدعاء الآخر والمختلف الى القيام بدوره في الاسهام والتشارك، وفي التفاهم والمحاورة، في التضافر وتبادل الظفر بالحرية وبحقوق الذات. 6- وتبرز في وعينا الثقافي التاريخي حركات فكرية عديدة تمحورت كلها حول إلقاء النفس في لجة الأمم الأخرى، وفي استيعاب المشاعر بالانكماش سعياً وتحقيقاً للنظر الشمولاني والعقلاني المقارَن والمقارِن. فالفلسفة العربية الإسلامية، في المرحلة التأسيسية، تمثلت خطاب الأمم السابقة، ومثلت رؤية أجمعية كلية للأمم أو للمدن (الدول) والمستقبل الأمثل (الكامل، الفاضل…). يذكر هنا الكندي في تفسيره للحقيقة، وفي ندائه الموجه الى صياغتها بالانتفاع من أي كان وأنى كان. ولم يكن الفارابي ثم ابن سينا، ولا إخوان الصفا ثم الغزالي. والآخرين من ذلك القبيل، بأقل حماس، من الكندي ، الى ماهو غير احتكاري للحقيقة وغير أناني. ثم إنّ الصوفيين، من مجال ابن عربي على سبيل العينة، غذوا هم أيضا الروح العالمي للانسان والدائرة الفكرية الواحدة في الفهم والوعي والتواصلية.. ويقف الى جانب مواز المفكرون الذين نظّروا في »علم الامم المقارن« من حيث خصائصها وثقافاتها، أو ما سمّوه »طبقاتها«. إنّ شخصيات من مثل صاعد، او الشهرستاني، وبغير أن ننسى آخرين، حرثوا كلهم في ذلك الميدان (يراجع ايضا: كتّاب التأرخة). لقد أعطوا لذلك العلم، في الفكر العربي الاسلامي، أسسه ومفاهيمه كما حددوا له أغراضه و»قوانينه«. 7- والادباء، والذين كتبوا في تفسير الخليقة وفي الامم البائدة وفي الاديان، وحتى قطاع أهل الكلام، اهتموا كلهم بالنظر النقدي في ثقافة الآخرين، وبالمقارنات الحرة وشتى ماقد ينقل الى الذات ديناميات وافدة وخبرات »متراكمة« وهمماً »متعاقبة« (راجع: مسكويه). 8- لعل نظرية الاستخلاف تثمّر بامتياز من أجل تعضية نظرية تعد الكائن البشري خليفة لله في الارض، أي صاحب الارادة والوعي والمسؤولية حيال الطبيعة وأمام نفسه. فحسب هذا المعنى، يعد الانسان قيمة، وحرية، وذا حقوق لاينازع فيها ولا يجوز له التخلي عنها بقدر ما عليه، في مقابلها، القيام بواجبات تجاه الآخر والمجتمع والأمة. وحتى إن اخترنا المعنى الآخر للمذهب الاستخلافي، فإنه من الصائب أيضا والمكامل الموضح اعتبار النوع البشري الموجود مسبوقاً بأمم بنوع كان أقل تطوراً، ومن ثم كان بمثابة إعداد لماهو قائم اليوم أو سيأتي ومن ثم حيث الإنسان يبقى مركز الكون، وعماده، والمنفرد بالعقل والحرية. ويبقى الانسان، في المعنيين لحكمة الاستخلاف، المكلّف الوحيد برعاية نفسه، وبتدبر هذا الكون.. 9- في مدرستنا الفلسفية الإسلامية المعاصرة، تحمي مصالح المواطن، أي حقوقه، الشريعة. فالشريعة تنظيم للمجتمع المدني، وبنيته او تحديد للبنى والمجال والحدود لحق الانسان في الامتلاك، وفي الحياة الدينية، وفي التعبير الذاتي. اعتبرت دائماً الشريعة أجهزة فكرية وقواعد سلوكية مقاصدها التعضية ثم الرعاية للانسان في المجتمع، وضمن العلائقية، وأمام القيم أي حيث »حق الله« والمتعاليت. يأتي البيان الاسلامي العالمي لحقوق الانسان (مقر منظمة الاونيسكو، باريس ، 19 أيلول، 1981) عبارة عن إعادة صياغة. فهو بيان يعبر بلغة عصرية عن ماهو متضمن، أو ما هو سهل البروز والتوضّح والانغراس، في الثقافة العربية الإسلامية . لكأنّ ماجاء به ذلك البيان الاسلامي إعلاناً أو تنويراً، واعترافاً لما هو مقترف لكن بغير تسمية. لا أقول إن التراثي حوى أو يحوي كل شيء، ولا أقول إن اعادة التسمية كانت وحدها ماينص أو ما أضافه البيان الاسلامي. المراد الأول هو أن هذا الأخير، وعلى ضوء الإعلان العالمي لحقوق المواطن، أعلن ضرورات، ومبادئ نبيلة، وحقوقاً لانزاع فيها، ولا يحق لاحد التنازل عنها او منعها عن أحد. أما المراد الثاني، وهو ما أود الالحاف عليه، فهو أن الاعلان الاسلامي وجه التفكيرات المنمّطة والمفاهيم التراثية توجيها جديدا: كان الفكر العربي الاسلامي تحدث عن أدب لكل مواطن في كل عمر ومهنة وعلائقية، لقد كان الخطاب التأسيسي يتكلم عن واجبية، وينبغيات وآدابية أي تعاملية مثالية، كان الكلام عن »فرض عين وفرض كفاية«. هذا الكلام كان إرشادياً وعظياً، ومراياً ونداءات، وكان نظريا غير مكرس وغير مدرّع ولا يحيمه في الواقع نظام سياسي او مجتمع مدني أو تنظيمات مدونة، وكان فقط كلاماً عن واجبات هي ، إن نظرنا اليها من زاوية اخرى، حقوق. ماذا فعل الاعلان الاسلامي؟ انه قلب الزاوية أو المنظور أو المرآة، لقد أعاد التسمية، وأعاد الصياغة الفكرية والمعرفية والحقول الدلالية. هذه الشقلبه للمفاهيم، بل للقيم أو لجدول الافكار ولمنضدة المقولات، كانت هي الجديد، واللابدي، والشديد التعبير، والمنظوم في تشريع رسمي مدون على شكل بنود ومواد نظامية الزامية. إن الفكر الاسلامي، في ذلك الاعلان عن حقوق الانسان، أدار المقود والاوليات والمعاني. بذلك فهو فكر ليس توفيقياً تلفيقياً كما كتب بعض المتنقدين. فتلك الصياغة لحقوق الانسان، بحسب الاعلان الاسلامي المذكور، نشاط فكري أصيل: لقد نظر على مواد محلية تبعاً للعقلانية وللشمولانية. من هنا، وفي تحليلاتي، فان الكلام عن أنه بيان قام على خليفة الاعلان العالمي لحقوق الانسان كلام لا أتفق مع مقاله أننا قلّدنا، أو حاكينا، أو كتبنا بمصطلحات عربية ومن أجل فضاء ثقافي عربي إسلامي مقفل ماسبق أن كتبه الآخرون متأثرين بسياقهم الحضاري وإهابهم الفكري والتاريخي. 10- إعلان حقوق الانسان في الاسلام، هو ايضا اعادة نظر اخرى ممتازة في لعبة الشريعة مع الدار العالمية للانسان المعاصر. هو اجتهاد مجموعة من القانونيين، أصدره عدنان الخطيب([309]). وآخرون في دمشق، 1992. لا تثريب في أن يأتي ذلك »البيان« متأثرا بالإعلان العالمي لحقوق الانسان، ومغطى بمصطلحات فقهية تراثية. ولا ضير في أن نوافق على امه مستقىً، بحسب العلني فيه من الشريعة الإسلامية. فهذه الاخيرة مشهورة في أنها مؤسسة وأساسية داخل علم الواجب أو حيث صقل المناهج المنتجة للفتوى والواجبات الجديدة والاجتهاد التشريعي والينبغي. (راجع: ديونتولوجيا، علم انتاج الواجبات الملزمات، الواجبياء، الواجبيات). لا يخشى الفكر التكييفاني من التمحور حول فهم للشريعة يجعلها مناهج منفتحة في الاجتهاد، وعملاً فريقياً لاختصاصيين مبرمجين متكاملين باستمرار وتناقح وضمن استراتيجية داخل الذمة الكوكبية، ونظرا أو حراثة في بنية الفكر والمجتمع وفي الحضارة ومجالات العلوم والنظم (راجع: الاجتهادانية، او المذهب في الاجتهاد في الاجتهاد النظامي الموسع الحداثوي، الحضاري..). 11- في تحليلاتي، لا يحق للفقيه المجتهد، أو للاجتهاد الحضاري المعاصر، أن ينقفل وينقفل . فخطاب الاسلام في حقوق المواطن خطاب عالمي المدى والتوجه والرؤية، ومقال عقلاني شمولاني لا يحصر الانسان في مفاهيم واحكام غير مقبولة عقلياً وبشرياً. المراد هو أني، ان شئت الكلام عن حقوق للمسلم، فعليّ أن اعبر كلامي موجهاً الى كل انسان، وكل امة، وكل مافي الانسان. لا أستطيع ان اعتبر الانسان متاعاً او شيئاً، ولا أن احمل الدين الاسلامي أو تراثه وحضاراته مسؤولية المواقف السلبية حيال الاقليات، أو المرأة، أو بعض الافكار.. إن الاجتهاد الحضاري في الفكر العربي المعاصر يصقل الايمان بحقوق المواطن، وبواجباته تجاه نفسه وغيره ومجتمعه، كما أنه يعدّ كل انسان قيمة، ويثق بقدرة المواطن على ضبط حريثه والسمو بعلائقيته، ويحيّن بقوة وثقة المساواة والعدالة والتكافل والتراحم ومبادئ التعاون والتفاهم الرافضة لكل سيطرة او هيمنة. 12- إن كان الاجتهاد الحضاري الفريقي والمؤسسي، في الفكر الفقهي المعاصر، يؤسس الاعلان الاسلامي لحقوق المواطن (باريس ، مقر الاونيسكو، 1981 . دمشق، 1992) على مصالح العباد، أو على مقاصد الشرع، فأنا أكثر اهتماماً بأن تظهر بأن يظهر ذلك الاعلان مؤسساً على الايمان بالانسان من حيث هو قيمة، وقدرة على تحيين الكمالات، وعلى الاقتراب اللامشبع واللامتوقف من الخير والحقيقة والجمال، من التفاهم والتكامل أو التعاضد بين الثقافات. فمن جهة أولى، على الايمان بالخير بتأسس ويربو التعولم الحر والبعد الكوكبي للمواطن، ثم يأتي بعد ذلك – وبحسب تحليلاتي – دور المصالح أو مقاصد الشريعة كي يتكامل ويتعاضد مع الدور المعطى للمثالي والقيم، أو للفلسفي وللشمولانية، في مسار الأمم نحو الدار العالمية لحقوق المواطن المنتفحة والمتناقحة. 13- في حضارات الاسلام، المتعاقبة والمتزامنة، قطاع يدهش بثرائه معاً وبفقره، أو بخصوصياته معاً وبأپعاده الكونية، وبالتصاقه معاً وبابتعاده حيال الواقعي والاجتماعي. ذلك هو التوصف الذي يصدق فيه الحكم المنطقي الذي يكون صادقاً فيما يثبت ومغلوطاً مخطئاً فيما ينفيه. كل خطاب في التصوف يكشف ايجابيات: فهنا قطاع أپدع في الجماليات والمعرفيات وعلم القيمة، وأيضاً جهة اخرى ، إغفال سلبيات بل هادمات حيال العقل والمجتمع والانسان. 14- التصوف الاسلامي، والتصوف في الاسلام، قطاعان استطاعا تخطى كل حدود بين الأديان أو الألوان أو الأمم…، وأسسا مجالاً للنظر والسلوك تميز بانفتاحه على ماهو مشترك بين البشر، وماهو خاص بالانسان وبالانسان الباحث بلا ارتواء عن المطلق والفوزين او عن الخير معا والسعادة والحقيقة. (راجع: قيم المحبة، على سبيل الشاهد). 15- نسق العالم الجديد، أو بنية التعولم الجديد، في الفكر الغربي مختلف عن النسق ذاته مأخذوا من وجهة النظر العربية، ثم الإسلامية بعامة. إن ماكتبه فوكوياما المتأمرك، أو هنتغتون الاميركي شاهد على المعنى »الغربي« لظاهرة التكوكب الاخذة بالترسخ في العالم المعاصر على أصعدة السلعة والصورة أو الاعلام والسوق ثم الالكترونيات والاتصال. يرفض المواطن العربي التنازل عن حقوقه والتخلي عن موقعه ومكانته او مستقبله الاسهامي داخل الدائرة العالمية الراهنة. ويرفض الانسان ظواهر عديدة تجرح الوعي والمجتمع في حضارة المجتمع الصناعي الراهن. فتحويل العقل الى أداة او جهاز قتل للعقل نفسه. ونبتعد عن الانسان أن غرقنا في عبادة السلعة، أو تحولنا الى كائنات استهلاكية أو امتلاكية تبحث عن الثروة وحدها وماهو حسي واشباع حاجات تخلقها المؤسسات المنتجة والاعلانات والصورة. مايزال منيرا نداء الحكمة، ومايزال ممكناً الاهتداء بالقيم الاخلاقية والمعيارية التي تقدمها للعالم مدرستنا الفلسفية العربية الاسلامية([310]).