جمال الدين الأفغاني نشاطاته السياسية والارشادية الدكتورة فاطمة عبد الرحمن الرشيد مقدمة عامة عرفت المجتمعات البشرية في حقب مختلفة من تاريخها بروز شخصيات قيادية من مفكرين ومصلحين تركوا بصماتهم الفكرية والاصلاحية الواضحة على المجتمع الانساني – ولاشك إن اتهامات الرواد والمفكرين تعد نتاجاً مباشرا للتفاعل الموضوعي بين السمات المتفردة والمميزة للشخصية القيادية والظروف الاجتماعية وغيرها التي تحيط به والتي تشكل بدورها طبيعة وهدى التغيير والاصلاح – ومنهم من تجاوزت اسهاماتهم الحدود الزمنية والحواجز الجغرافية والاجتماعية لتواكب الفكر الانساني المتطور وتصب في قالب اشمل واعم بحيث ترى الاثر على نطاق واسع من المجتمع الانساني – كما هو الحال مع السيد جمال الدين الافغاني أحد كبار رواد المفكرين المسلمين في القرن التاسع عشر الميلادي (1838 – 1897م). يعتبر جمال الدين مفكر اصلاحي رائد كانت له اسهامات بارزة وواسعة النطاق في مجال الاصلاح السياسي والديني في عصر تعرضت فيه الدول الاسلامية في الشرق الى التفكك والاضمحلال ومن ثم تزايد عليها والضغط والنفوذ الغربي الاستعماري، كانت الظروف الاجتماعية والسياسية السائدة في ذلك الاوان ملائمة لانتشار افكار جمال الدين التي تركت أثراً واضحاً في تحريك العالم الاسلامي – وتمثلت رسالة جمال الدين الاصلاحية في الدعوة الى توحيد كلمة المسلمين وجمع شمل الامة الاسلامية تحت راية »لا اله الا الله« والدعوة من خلالها وعلى نهجها الى الحرية الفكرية والسياسية ومناهضة الاستعمار بكافة اشكاله – كما اتسم فكره بالدعوة الى التجديد في الدين من حيث الفهم والتفسير والتخلف من الجمود الفكري ونبذ الاوهام التي ليست لها أصل في الاسلام وانما من شأنها اعاقة مسيرة المسلمين نحو التقدم والازدهار – كما كان ينادي بالتأكيد على أن الاسلام دين شامل في تناوله لقضايا الانسان الروحية والمادية وأنه دين عقل وكرامة للانسان حيث قال »الاسلام والذل لا يجتمعان في قلب واحد«. وطاف جمال الدين بلدان العالم الاسلامي والغربي ناشرا دعوته التي كرس حياته لاجلها وتجمع في ترك بصماته اينما حل وايضا في دول اسلامية كثيرة لم يقيض له زيارتها، ورغم تضارب الاراء حوله الا أن التاريخ يثبت له انه كان مفكرا رائداً أدى رسالته الاصلاحية في العالم الاسلامي ونجح في ايقاظ الشعور بالوحدة وتقويته الى حد لم يسبق له مثيل كما ترك تلاميذا على نطاق العالم حملوا مشاعل فكرة من بعده. خلفية تاريخية من اصل ومنشأ جمال الدين ذكرنا في المقدمة بأن البيئة الاجتماعية لها أثر فاعل في تشكيل اسهامات الشخصية القيادية الاصلاحية ومن هنا يتأتى ضرورة البحث بفرض التعرف على أصل ومنشأ الرائد جمال الدين الافغاني توطئة للانطلاق في تناول نشاطه الفكري والسياسي في الدول الاسلامية وغيرها – كما تأتي اهمية هذا الجانب بسبب افتراض بعض اكتساب أن جنسيته كانت ذات أثر على دعوته ونشاطه السياسي، كما زعمه بعض الكتاب (إن جمال الدين اراد ان يعرف بنسبه الافغاني لامر هام يتعلق برسالته الاصلاحية الكبرى – فقد اراد جمال الدين نشر هذه الرسالة في اقطار اسلامية سنية المذهب، ولم يكن من العوامل المواتية لنجاحها صدورها من عالم شيعي النزعة ولما كان مذهب السنة هو الشائع في بلاد الافغان بينما يسود المذهب الشيعي بلاد ايران فقد اراد جمال الدين –على حد قولهم أن يعرف بنسبة الافغاني…) ([277]). كما انه من ناحية أخرى نجد من الصعوبة الربط بين احتمال أن يكون ايراني الجنسية وبينا اهتمامه البالغ بمحاربة الشاه واحداث ثورة اصلاحية دستورية في ايران اذ ان دافعة الحقيقي يكمن في رسالته نحو العالم الاسلامي ككل وايمانه بأن ايران يمكنها أن تقوم بدور طليعي في تحقيق الجامعة الاسلامية وذلك لما لها من ماض مشهود في احياء العلوم الاسلامية وإقامة الدين الاسلامي. الواضح في الامر هو اختلاف المؤرخون كثيرا حول أصل جمال الدين فمنهم من يعتبره ايراني الاصل حيث ولد بقرية همدان (حمدان) ثم رحل عنها الى الافغان حيث نشأ فيها وانتسب اليها([278]) ومنهم من يرى انه افغاني »من أسعد آباد« الاصل والنشأة([279]).وله صلة نسب بالايرانيين ، بينما يرى البعض الاخر أن جمال الدين الافغاني من أسرة عربية ينتهي نسبها الى سلالة النبي الكريم([280]). وقد اسهب المؤرخون في التنفيذ والتحليل حول نسب ونشأة جمال الدين([281]). لكن رأينا عدم الاسهاب في هذا المجال حيث توجد بحوث اخرى في هذا المؤتمر تتناول هذا الامر بالتفصيل والتدقيق اللازمين، إلا أن في مساق هذا البحث نؤكد على أنه بغض النظر عن حقيقة أن جمال الدين ايراني او افغاني الاصل والمنشأ فان افكاره ونشاطاته الدينية الفكرية والسياسية قد شملت الدولتين وتجاوزت الحدود الجغرافية للدول التي زارها لتجسد بذلك فكرة »الامة الاسلامية« والجامعة الاسلامية التي كان ينادي لها وكرس حياته من اجلها وعلى الرغم من ان الجامعة الاسلامية لم تتكون بالكيفية التي اراد لها الا ان جمال الدين تجمع في أن يجد موطناً لدعوته حيث وجد المسلمون في مشارق الارض ومغاربها واستجابوا لدعوته وأخذوا بأفكاره وعملوا بها – وبذا فقد اختلف جمال الدين عن غيره من المسلمين الذين سبقوه فقد كانت حركاتهم الاصلاحية محدودة بحدود البلاد التي ظهروا فيها ولكنه انتقل بدعوته من الحيز الضيق... وجعل العالم الاسلامي بأجمعه ميداناً لنشاطه ودعوته.. ([282]). بعض ملامح شخصية جمال الدين الافغاني كشأن كثير من الرواد والمفكرين، فقد تعرضت شخصية جمال الدين الافغاني للاراء المتناقضة والمتضاربة في تقييم آرائه واسهاماته ونهجه في الدعوة والاصلاح فنجد طائفة ثري فيه العبقرية والنبوغ والاصلاح والريادة والزعامة الروحية والسياسية([283]). وطائفة ترى عكس ذلك وهذا أمر طبيعي حيث أنه كان مصلحاً وداعياً الى الحرية فلابد أن يجد له خصوم من قبل الذين يتحكمون في حريات الشعوب وأفكارها. إلا أنه مهما كان إختلاف الكتاب والنقاد حوله فقد كان يتمتع بخصائص شخصية اهلته للدعوة والزعامة في المجالات السياسية والدينية والفكرية وقد أقر له بذلك المسلمون وغيرهم فقد وصفه »براون« بأنه كان »فيلسوفا وكاتبا وخطيباً وصحافياً وفوق ذلك كان سياسياً وكان في نظر المعجبين به وطنياً عظيماً إلا أن خصومه كانوا يعدونه مشاغباً خطرا، وقد كانت بصفاته الشخصية أثراً بالغاً في رواج دعوته وانتشارها حيث تميز جمال الدين الأفغاني بالذكاء المفرط وقوة الذهن وسعة العقل وغزارة المعرفة والاطلاع ونفوذ البصيرة([284]). وقد استطاع جمال الدين بشخصيته الفذة التأثير على الكتاب الغربيين الذين كانوا ينتقدون الاسلام ويصفونه بالسلبية واللاواقعية أمثال »رينان« الذي كان يرى أن الاسلام دين لايشجع على العلم والفكر الحر فقد قال عن جمال الدين الأفغاني... »وقد خيل الي من حرية فكرة وقبالة شيمه وصراحته وأنا أتحدث اليه أني أرى أحد معارض من القدماء وجها لوجه وأني أشهد ابن سيناء أو ابن رشد...« ([285]). كما أن من السمات البارزة التي أثرت على نشاط جمال الدين السياسي والديني تمثلت في الحلم الا أن هذه الصفة كان يناقضها سرعة الغضب وحدة المزاج والمغالاة في المخاصمة وقد أثرت هذه النواحي سلباً احياناً على نشاطه فقد تحدث عنه تلميذه محمد عبده واصفاً أخلاقه فقال (... له حلم واسع يسع ماشاء الله أن يسع إلى أن يدنو منه أحد ليمس شرفه أو دينه فينقلب الحلم الى غضب... فبينما هو حليم أواب إذا هو أسد وتاب) ([286]) وقال عنه محمد عبده ايضا »انه حديد المزاج، وكثيراً ما هدمت الحدة ما رفعته الفطنة) ([287]). وهناك سمات اخرى بارزة تحف جمال الدين فهو قد تميز بالكرم والامانة وجرأة القلب واللسان مما ساعده في التعبير عن أفكاره وآرائه دون خشية حاكم أو سلطان ...) كما كان أيضاً »طموحاً في مقاصده السياسية لكنه مع ذلك قليل الحرص على الدنيا بعيد عن الغرور بزخارفها ولوع بعظائم الأمور عزوف عن صغرها شجاع مقدام لايهاب الموت كأنه لا يعرفه. بجانب كل ذلك فقد تميز جمال الدين بميله الى الرحلات واستطلاع أحوال الأمم والجماعات ودراسة أخلاق الشعوب مما ساعده في توسيع مداركه ومعرفته ومهدت له لنشر أفكاره وأداء رسالته في أوسع نطاق. منهجه في الدعوة والارشاد تميز جمال الدين الدين الأفغاني بسعة الاطلاع فقد كان عارفا بأحوال الأمم الاسلامية والغربية كما درس العلوم الاسلامية والفلسفات الشرقية والنظريات والفلسفات الغربية دراسة مستفيضة موضوعية نافذة – ويلاحظ أن نهج التأمل الفلسفي كان غالباً عليه واخذت حيزا كبيرا في فكره الى درجة جعلت بعض علماء المسلمين يتهمونه بالالحاد ويشككون في صحة عقيدته متسائلين هل جمال الدين الافغاني فيلسوف الهي أم مسلم أم فيلسوف مادي معطل؟([288]) مستندين على المقولة العامية من (تمنطق فقد تزندق) وهي خصومة مع الحقائق العلمية لا تستند على حقيقة دينية ولا مادية – ودفاع جمال الدين وتلاميذه عن الدين الاسلامي هو خير دليل على صحة عقيدته – اما الناحية الفلسفية فقد كان في فكره الفلسفي أقرب الى المتصوفة من حيث الزهد في الشهوات والملذات الدنيوية انعكس ذلك على بعض نواحي حياته الشخصية. وقد أدى زهده الى تعضيد جرأته وشجاعته في التفسير عن آراءه دون وجل او محاباة كما أدى به زهده الى الفروق عن الجاه والمناصب التي عرضت عليه عندما كانت متعارضة مع أفكاره السياسية ومبادئه الدينية([289]). ويمكننا القول بأن منهج جمال الدين في الدعوة قد إعتمد على مخاطبة الدين للعقل بالادلة والبراهين وعدم الاعتماد على النقل دون تحقيق وكان يبين لتلاميذه أن »المسلم لا يكون مسلماً صحيح الاسلام الا اذا اعتقد عن دليل وبرهان أن الله واحد وان محمدا عليه السلام نبيه ورسوله ولا سبيل الى هذا الا اذا طرق المسلمون ابواب العلم«([290]). ومنهج جمال الدين هذا يتفق الى حد كبير ومنهج العلوم الوضعية الحديثة التي تطورت في أوروبا مواكبة للتغيرات السياسية والاجتماعية والتطورات العلمية هناك وربما تعتبر هذه احدى المداخل لنقاد الافكار الدينية لجمال الدين كما أسلفنا الذكر – حيث اتهمه البعض بالخروج عن الدين([291]) الامر الذي يتناقض ودعوته التجديدية في الدين ودفاعه المتواصل عن المزايا الفريدة للدين الاسلامي التي تجعل منه اساساً للسعادة الانسانية مالم يخالطه الجهل والباطل، وليس أدلّ على أن منهج جمال الدين كان مخاطباً للعقل مرتكزا على الروح الايمانية من الاثر الواضح الذي تركه على تلاميذه حين غرس فيهم »روح التفكير المطلق وحسب الحقائق التي يتمشى مع العقل السليم والرأس الحصيف، وكانت دروسه تتميز بسعة الافق والتحرر من قيود التقليد([292]). وقد طالب على الدوام بالعودة الى جوهر الدين وتفسيره تفسيرا يتلائم مع روح العصر والاعتماد على منطق العقل والبعد عن التقليد دون ادنى اهمال لسلطان القرآن والحديث – كما انه كان لقن تلاميذه مبادئ التمحيص في طبيعة الامم ونوع مشكلاتها والسعي على ايجاد الوسائل العملية لحل معلاتها على الاسس والمبادئ الاسلامية، وهكذا نجد أن جمال الدين قد أسس من خلال دعوته الاصلاحية مدرسة فكري ذات نهج علمي اسلامي. محور أفكاره الدينية والسياسية يعتبر جمال الدين الافغاني مدرسة فكرية اسلامية حديثة ذات اتجاهات عديدة: ادبية – دينية – سياسية – فلسفية، ويمكننا القول بأن أفكار جمال الدين ألأفغاني قد ارتكزت على محورين اساسيين: أحدهما ديني والاخر سياسي. وقد برز المحور الديني واضحاً في فكرة »الجامعة الاسلامية« بالمعنى الشامل لهذه العبارة حيث تكون الامة الاسلامية هو الوطن الاوحد لكافة المسلمين وكان يهدف من هذه الفكرة المحورية الى توحيد كلمة المسلمين وجمعهم تحت لواء واحد وتمكين الالفة بينهم وتقوية الروابط حتى يعودوا كما كانوا اخواناً متألفين يجمعهم لواء دولة واحدة عظيمة([293]). اما المحور السياسي في فكر جمال الدين فكان ذو طابع فلسفي سياسي يرتكز على مبدأ هام »مبدأ الحرية« وقد تبعت هذه الفكرة من فلسفته الشهيرة التي مؤدها ان الحرية أفضل من الحياة وكان ينادي بالحرية الفكرية والسياسية، على المستوى الفكري كان ينادى كما اسلفنا الذكر بضرورة اعمال العقل والتجديد في الدين اما على المستوى السياسي فكان ينادي بحرية الممارسة السياسية بأقامة حكم الشورى واشراك الامة في السلطة والتحرر والتخلص من النفوذ الغربي بكافة اشكاله، وجلى انه يوجد تلازم وترابط بين هذين المحورين وقد استند عليهما جمال الدين في دعوته الى الوحدة الاسلامية والحرية الفكرية والسياسية مما جعلت شعوب العالم الاسلامي تلتف حول أفكاره وتعمل به، الا ان افكاره هذ ه التي وجدت رواجاً وقبولاً قد اكسبته في ذات الوقت عداوة الكثيرين من علماء وحكام المسلمين وغير المسلمين وحكومات الاستعمار والحكم الانجليزي على وجه الخصوص. نشاطه السياسي والارشادي في بعض الدول الاسلامية حيث ارتكز النشاط الديني والسياسي لجمال الدين الافغاني على فكرة (الجامعة الاسلامية) (ومبدأ الحرية الفكرية) لم يقتصر نشاطه على ايران وافغانستان التي تعتبر مواطن اصله ونشأته وانما جعل العالم الاسلامي بأجمعه ميداناً لنشاطه فضلا عن ذلك فقد اتسع نشاطه ليشمل دول اوروبا الشرقية والغربية على حد سواء ولانه صاحب رسالة ودعوة فقد اتسمت حياته بالترحال موسعاً بذلك دائرة نشاطه الا ان هناك عنصر آخر ساهم في تنقله وترحاله المستمر بين بلدان العالم هو المقاومة والمناوءة لافكاره من قبل الحكام وبعض علماء الدين والنفوذ الاجنبي بالشرق مما عرضه للنفي احياناً والهروب احياناً آخر لما تعرض ايضا للخطر والاعتقال والرقابة المشددة والحد من حرية حركته في بعض الاحيان كما حدث له مع السلطان عبد الحميد في تركيا. طاف جمال الدين الافغاني العديد من دول العالم حيث التقى بعلمائها وعظمائها وشعوبها وحكامها وظهر في صورة مفكر ومصلح اجتماعي كبير يدعو الى توحيد صفوف المسلمين وتحريرهم فكرياً وسياسياً وحثهم نحو التقدم والرقي والاخذ بالعلوم العصرية، من ناحية اخرى فان الظروف الاجتماعية والسياسية السائدة في الشرق الاسلامي آنذاك وطبيعة علاقات السلطة التي تربط بين دول الغرب والعالم الاسلامي هيأت مناخاً ملائماً لانتشار افكار جمال الدين في الدول التي زارها. يلاحظ أن هناك تفاوت في درجة اسهامه وتأثيره في هذه الدول ويعزي ذلك لاسباب عديدة نذكر منها: مدة اقامته في كل دولة وطبيعة العلاقة التي تربط بينه وبين السلطة القائمة في كل دولة بجانب عنصر هام يتمثل في البيئة الاجتماعية العامة من حيث استعداد الشعوب نفسها لتلقى افكاره والتفاعل معها ولا يفوتنا أن نذكر إن جمال الدين كان احياناً يختار موقعاً استراتيجياً بسفره الى احدى الدول بفرض مناهضة السلطة في دولة اخرى تعرض فيها للاضطهاد حيث كان بالعراق ولندن يحارب شاه ايران وهو بمصر يحارب الانجليز بالهند وهو في بريطانيا – يحارب الانجليز في السودان ومصر وهكذا، فتناول في الفقرات التالية من البحث – بشيء من التفصيل نشاطات واسهامات جمال الدين السياسية والارشادية في دول العالم الاسلامي ويقتصر تناولنا على الدول الاتية: افغانستان – مصر – ايران – العراق – الهند وتركيا. والاشارة الى الظروف التي كانت سائدة في كل دولة وبالتالي ماتركه جمال من أثر على احوالها السياسية والدينية – والتركيز في هذا لمبحث ينصب على ما يمكن أن نسميه بالمرحلة التالية من حياة جمال الدين اي من 1882 – 1897م وهي المرحلة التي انتقلت منها دعوته من الحيز الضيق الى الميدان الدولي([294]) وذلك دون الاغفال عن نشاطه السياسي والارشادي السابق لهذه الفترة ستعطى في نهاية البحث خلاصة عن اتساع افكاره ونشاطه في هذه الدول والآثار التي ترتبت عليها. افغانستان فضلاً عن إنتمائه بالاصل او النشأة بافغانستان فان جمال الدين أثر وتأثر بهذه الدولة كثيرا فترة بقائه فيها حيث شارك في الحكم وهو لم يتعد السابعة والعشرين من العمر واصبح كبير الوزراء والمستشار الاول في حكومة محمد اعظم (1864م) وتجددت في تلك الفترة الحروبات الداخلية في افغانستان وفطن جمال الدين أن تلك الحروبات كانت تحدث بتحريك الانجليز لها وتكونت لدى جمال الدين البذرة الاولى في بغض الاستعمار الاوروبي واتخذ مبدأ محاربتها والتحرر منه – حيث »أثارت أعمال الانجليز وأساليبهم السياسية التي كانت موجهة ضد الحريات ماكان يكنّه جمال الدين في نفسه من العداء والبغض للسياسة الانجليزية خاصة والمطامع الاستعمارية الاوروبية عامة ولقد لازمه هذا الكره طوال حياته – وكان له مبدأ راسخاً يصدر عنه في أعماله وآرائه وحركاته السياسية ([295]) وآلت حكومة محمد اعظم الى أخيه »شير علي« الموالى لحكومة الانجليز وغادر محمد اعظم الى ايران بينما بقي الافغاني في »كابول« يبث في الشعب الافغاني مبادئ الوطنية وروح الحرية مما أثار العداء بينه وبين الحاكم الافغاني غادر جمال الدين على إثرها البلاد الافغانية متجهاً الى الهند في عام 1869م. الهند اتخذ جمال الدين الافغاني في المرحلة الاولى من حياته (مرحلة الاعداد والتكوين 1838م – 1869م) من الهند أحد مراكز تلقي العلم والمعرفة الا أن قدومه الى الهند ومغادرته اياها قد ارتبطت بالنفي والابعاد من دول اخرى فقد قدم اليها عام 1869م مبتعداً عن افغانستان عندما اختلفت آرائه مع الحاكم الافغاني الموالي للانجليز، وخرج من الهند عام 1870 بقرار من الحكومة الانجليزية التي ضاقت بأفكاره في الحرية ذرعاً – وعاد اليها منفياً من مصر عام 1879 بقرار من الحكومة المصرية وايعاز من الحكومة الانجليزية. أسلفنا الذكر بأن جمال الدين قد استنصر ببغضه للاستعمار وللحكم الانجليزي على وجه الخصوص وسياستهم الرامية الى التفريق بغرض التحكم في الشرق الاسلامي – تجدر الاشارة الى انه عندما قدم جمال الدين الافغاني الى الهند كان النفوذ الانجليزي متفوق هناك حيث بدأ استعمارهم لها عام 1623م وقد قام أهل الهند بثورة في عام 1857م الا أنه لم يكتب لها النجاح وبذا زاد تنكيل الانجليز بالمسلمين حيث كانوا في طليعة الثوار ولما كان هذا هو الحال في الهند عندما قدم اليها جمال الدين والتف حوله أهله »آملين« في الاستفادة من أفكاره وآرائه ودروسه التي تدفعهم دفعاً قوياً الى الثورة وطلب الحرية واهمية الحقوق وكيفية الحصول عليها والحفاظ عليها والظلم وكيف يرفع، ولما راجت افكاره وزاد اثره وسط العلماء والعظماء وافراد الشعب أصبحت الحكومة الانجليزية تخشي وجوده في الهند لانه كان يهاجم دون هوادة السياسة الانجليزية مبيناً لاهالي الهند الطريق العملي لنيل الاستقلال([296]). وهكذا لم تطل اقامته في الهند حيث غادرها عام 1870م تحت ضغط الحكومة الانجليزية قاصدا مصر وعاد اليها مرة اخرى منفياً من مصر عام 1879م – ولدى عودته الاخيرة هذه اهتم اكثر بضرورة تعليم الهنود قواعد الدين الاسلامي واصول الفقه وذلك نسبة لقلة معرفة الهنود آنذاك بالتعاليم الاسلامية فضلا عن انتشار التعاليم البشرية في وسط الهنود الأمر الذي من شأنه اضعاف وحدة المسلمين خاصة وقد اعتنقها بالفعل عدد كبير من مسلمي الهند.. ولإصلاح هذه الحال بالهند قام جمال الدين بتأليف كتابه المشهور بعنوان »الرد على الدهريين« رسالة في ابطال مذهب الدهريين وبيان مفاسدهم واثبات ان الدين أساس المدنية والكفر فساد العمرات وقد انتقد جمال الدين مذهب الدهريين (التبشرين) المادي الذي ينفي وجود سوى المادة وان منشأ اختلاف صور المادة هي الطبيعة وقد رد على مزاعم الدهريين مضمناً الكثير من الادلة والبراهين موضحاً الاسس الفلسفية القديمة لهذا المذهب حيث ظهر المذهب المادي لدى اليونان والفرس والنظرية اللاروتينية وانتهى جمال الدين في رده الى أن الدين والاخلاص يعتبر خير ضمان ضد بواعث الشر وضروب الفساد واهمية الدين في تنمية العقل والروح وغرس الفضائل مثل الحياء، الامانة والتعاون. كان هذا العمل يعتبر من اكبر انجازات الافغاني في الهند، واثناء وجوده هناك اندلعت الثورة (العرابية) في مصر وحيث كان مهتماً اهتماماً بالغاً لشؤون مصر وقضية تحريرها شارك جمال الدين الشعب المصري في ثورتها وحرض مسلمي الهند على القيام بثورة داخلية تضامناً مع المصريين وحتى يشغلوا الانجليز عن مصر ليتم تحريرها، وانتبه الانجليز الى الدور الخطير الذي كان يلعبه جمال الدين في الهند وثم ابعاده على اثر ذلك عن العاصمة الهندية الى (كلكتا) وشددوا عليه الرقابة، وعندما انتهت الثورة (العرابية) في مصر بالفشل واحتلت الانجليز مصر اطلق سراح جمال الدين الافغاني فغادر الهند متجها الى بريطانيا ليواصل جهاده ونشر افكاره ودعوته الى الحرية من داخل بلاد الانجليز. وهكذا نلاحظ أن نشاطه السياسي والديني كان ذو اثر فعال حيث اقام مع دوام اهتمامه بقضايا الدول التي هو بعيد عنها جغرافياً. نشاطه الادبي والديني والسياسي في مصر كانت مصر من اكثر الدول الاسلامية ملائمة من حيث البيئة الاجتماعية والسياسية والفكرية لمساعدة جمال الدين في نشر دعوته وافكاره التي اثرت في نهضة مصر الادبية والدينية والسياسية، جاء جمال الدين الافغاني مرتين الى مصر بعد أن تعرض للاضطهاد السياسي والديني في دول اخرى – المرة الاولى لمقدمة الى مصر كانت عام 1870م حيث تعرض للاضطهاد السياسي وابعدته الحكومة الانجليزية من الهند، اما المرة الثانية فكانت عام 1871م حيث ابعد من تركيا عندما خشى شيخ الاسلام التركي وبعض رجال الدين هناك انتشار دعوته الاصلاحية، وكما ابعدته الحكومات من الهند وتركيا ابعدته ايضا الحكومة المصرية بعد أن وضح تأثيره الا انه في بادئ الامر وجد جمال الدين في مصر الترحاب من قبل الحكام والشعب وقد اكرمه (الخديوي اسماعيل) الذي كان مشغوفاً محباً للعلم والعلماء ولم يكن يخشى كثيرا آراء جمال الدين، وعلى الرغم من أن آراء جمال الدين خاصة السياسية لا تتفق وآراء (الخديوي) الا أن قدومه وبقاءه بمصر كان يعتبر مكسباً سياسياً دينياً لمصر وذلك لشدة المنافسة التي كانت قائمة بين مصر وتركيا ورغبة مصر في الاستقلال عليه فان استقبال جمال الدين لمصر يبرهن للعالم الاسلامي اهتمام مصر واحترامها لعلماء المسلمين الشيء الذي لم يتوفر له في تركيا. كان لنشاط جمال الدين بمصر آثار واضحة في ثلاث مجالات اساسية هي: الادبية – الدينية والسياسية. (ففي الناحية العلمية والادبية استطاع جمال أن يفتح اذهان المصريين الى البحث والتفكير وبين لهم طريق الاستنساخ والاستنباط، وبفضله خطا من الكتابة والخطابة في مصر خطوات واسعة في التطور – كما تقدمت الصحافة تقدماً ملموساً وتحررت من مختلف القيود)([297]). وأصبحت للصحافة المصرية أثر واضح في توجيه الرأي العام إذ خرجت من النطاق الضيق حيث كانت المقالات قاصرة على الموضوعات العلمية والادبية فقط واصبحت الصحف تتناول الموضوعات السياسية والاجتماعية والدينية واصبحت تنتقد الولاة والحكام بصراحة وجرأة وهذا الاثر يعتبر الدليل الواقعي لنجاح جمال الدين في اعداد لجنة من تلاميذه الضالعين في مجال الاصلاح والادب وقد اصبحوا كتابا ومفكرين يؤخذ برأيهم ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: الشيخ محمد عبده، سعد زغلول، عبد الله نديم ، قاسم أمين بك، ابراهيم اللقاني، الشيخ علي يوسف، محمد اقبال، السيد عبد الرحمن الكواكبي ، السيد محمد رشيد رضا، وغيرهم. وقد تشرب تلاميذه افكاره التي كان يبثها عبر دروسه في بيته وفي الازهر والاماكن العامة وايضا عبر المقالات في الصحف ويهتم فيها على الارشاد وضرورة التفكير والاعتدال ونذكر على سبيل المثال درسه في »تربية الامة« التي ترتكز فكرتها الاساسية على اهميته التوازن والاعتدال في كل الامور وشبه التفاعل المناسب بين عناصر الحياة الانسانية بالتناسق في الحياة النباتية او الحيوانية – اذ أن غلبة أحد العناصر هو خروج عن حد الاعتدال – كما نبه على اهمية دور العلماء والحكماء القائمون بأمر التربية والارشاد وبيان مفاسد الاخلاق ومعالجة علل النفوس ونقائصها مثالهم في ذلك مثل الاطباء في معالجة الجسم الانساني او الحيواني ولبلوغ علاج الحياة الانسانية لابد للحكيم ان يكون ملماً عالماً بتاريخ الامة واخلاقها ليعلم اسباب امراضها ودرجات الداء في ونوع دوائها([298]). اما في الناحية الدينية بمصر فقد نجح جمال الدين في احداث خطوة للاصلاح الديني بالازهر نفسه حيث لديه عدد كبير من التلاميذ، وكان في دعوته الدينية ركز على اهمية التجديد والرجوع الى جوهر الدين والاعتماد على منطق العقل وكان يشرح للمسلمين قواعد الاسلام الصحيحة وأبان ولهم ان المسلم لايكون مسلما صحيح الاسلام الا اذا اعتقد عن دليل وبرهان([299]). وقد وجدت افكاره رواجا وقبولا خاصة وسط تلاميذه الذين تأثروا بالحضارة الغربية (كانوا يعرفون بطبقة المتربطين) الا ان بعض رجال الدين اتسموا بالجمود الفكري عارضوا افكاره واتهموه بمخالفة الدين الاسلامي بينما كان يؤكد هو وتلاميذه ان استبداد حكام المسلمين وسلطاتهم المطلقة ليست من الدين في شيء ويعد أمراً مخالفاً لتعاليم الاسلام – وهكذا فقد ترك تلاميذا كونوا المدرسة التجديدية التي تعبدت للاصلاح الديني والاجتماعي ومن اشهر تلاميذه الذين تصدوا مدافعين عنه وعن الدين الاسلامي نجد الشيخ محمد عبده والشيخ محمدرشيد رضا والشيخ مصطفى عبد الرزاق، وقد ذكرنا آنفا أن جمال الدين الافغاني قد قدم الى مصر منفياً مرة من الهند ومرة من تركيا وقد زادته هذه المعاملة السيئة التي وجدها من قبل الحكومة الانجليزية والتركية حدة في الثورة وزادت سخطه على الجمود الفكري وترسخت لديه أكثر ضرورة الاستمرار في الدعوة الى الاصلاح السياسي وتلقين مبادئ الحرية لكل شعوب العالم الاسلامي. تعتبر الناحية السياسية في نشاط جمال الدين بمصر تالية لنشاطه الادبي والديني حين تركز نشاطه في الاعوام الاولى لاقامته بمصر على النواحي العملية والادبية ولم تظهر ابعادها السياسية الا في وقت لاحق اي حوالي عام 1876م، في هذه الاونة ساءت احوال مصر الاقتصادية مما مهد لتزايد النفوذ الاوروبي في مصر والاستيلاء على الموارد وتدخل الانجليز في شؤون مصر الداخلية والتحكم فيها بسبب الضائقة المالية التي مرت بها والقروض التي كانت تأخذها من الدول الاوروبية نظير التنازل عن بعض الحقوق الوطنية حيث وجدت الحكومتان الفرنسية والانجليزية في عجز مصر عن سداد ديونها وسيلة تدخلهما تدخلا فعلياً مباشرا في شؤون البلاد بحجة اصلاح المالية والادارة([300]). بلغ نشاط جمال الدين السياسي في مصر اوجه في الفترة (1876 – 1878م) حيث بدأ مركزه يشكل خطرا على الحكومة المصرية خاصة وقدر اهتمامه في الدروس التي يلقيها علي تلاميذه بالاحوال السياسية وضرر التدخل الاجنبي الذي اخذ يسيطر على شؤون البلاد كما ركز على ابراز الاثار السلبية للقروض التي كان يأخذها الخديوي لتعود عليه بمنافع خاصة وليس لفائدة مصر. وبهذا النشاط المشهود نجد أن افكار جمال الدين السياسية لاقت رواجاً وانتشاراً مما زاد التقارب بينه وبين عامة الشعب الا انه في نفس الوقت زادت الشقة بينه وبين الحكام المصريين والانجليز، هذا وقد اصبح يستعيض عن دروسه في العلوم والفلسفة بمحاضرات في السياسة مذكراً المصريين بالنظم الاستبدادية التي تعاقبت عليهم داعيا اياهم لنيل الحرية من الاستعمار او الاستشهاد، واثمرت احاديثه وخطبه السياسية تكوين تنظيمات سرية واخرى غير سرية ذات نشاط سياسي واهم هذه التنظيمات كان هو »الحزب الوطني« وقد اتخذت شعار »مصر للمصرين« مرتكزا لنضالها التجريدي وبرز في اعمال الكتاب والعلماء المصريين حينئذ التعبير الواضح والصريح في النداء يسلطه الامة وتحقيق الحياة النيابية في البلادوانتهى النشاط السياسي لجمال الدين الافغاني في مصر الى نفس المصير الذي اتى به الى مصر – حيث اصدرت الحكومة المصرية قرارا بنفيه الى الهند وقدصدر ذلك القرار بايعاز من ممثلي الحكم الاستعماري في مصر. وهكذا فقد تم نفي جمال الدين من مصر الا أن المهم في الامر انه ترك اثرا كبيرا وواضحاً في الحياة السياسية في مصر ربما اقوى واعظم منه في أي بلد من البلدان الاسلامية الاخرى، واثره في السياسية المصرية كان واضحاً ايضا من خلال جريدة »العروة الوثقى« التي كان يصدرها في باريس وكرس بها جزء هام لقضايا مصر وتحريرها وعن طريقها ايضا نجح في اثارة الشعب المصري ضد الاحتلال الانجليزي وحاربهم دون هوادة – ولما شعر الانجليز بخطورة الجريدة على وضعهم في مصر عملوا على اصدار قرار بواسطة مجلس النظار المصري لمنع دخول الجريدة الى مصر. كما كان لجمال الدين ايضا دور في اذكاء (الثورةالعرابية) حيث بالاستفادة من دروسه قام (عرابي) ومن معه في تحفيز الناس للتدخل في السياسة ومساعدة العلماء والنواب والشعب في طلباتهم وعمت الثورة جميع أرجاء مصر وانتقل صداها الى انحاء العالم الاسلامي الذي تعاطف مع الشعب المصري كما انه ليس ادل على علاقة جمال الدين (بالثورة العرابية) من اعتقال الانجليز له في الهند عندما اندلعت الثورة العرابية في مصر. ويمكننا القول بأن جمال الدين الافغاني قد وجد لدى المصريين الاستعداد الفكري والنفسي لتلقي افكاره والاستفادة منها في الاصلاح الديني والتطلع الى نيل الحرية، كما ان الظروف الاقتصادية والسياسية التي احاطت بمصر كانت عنصرا مساعدا في أن تجد أفكاره السياسية صدى واسعاً لدى المصريين اما المعارضة التي وجدها من قبل (خديوي مصر) والحكومة الانجليزية لم تكن الا ذات اثر ايجابي في انتشار دعوته والتفاف الشعب المصري حوله على الرغم من انها ادت الى نفيه عن مصر في نهاية الامر. أما وقد نجحت الحكومة الانجليزية بواسطة الحكومة المصرية في نفي جمال الدين من مصر وفي منع جريدته (العروة الوثقى) من الدخول الى مصر الا ان جمال الدين الافغاني قد نجح قبلها في أن يهز قواعد بقاء النفوذ الاجنبي في مصر كما نجح قبل ذلك في احداث نضهة فكرية ادبية جعلت من تلاميذه الادباء والكتاب قوة فاعلة تناوئ الاستبداد السياسي والتدخل الاجنبي والفساد الاقتصادي كل ذلك على أساس المبادئ الاسلامية، هكذا نرى أن جمال الدين قد اسهم بنشاطه الارشادي والسياسي في نهضة مصر على مختلف المستويات كما أن نشاطه ذاك قد تجاوز حدود المجتمع المصري باثارة الوعي القومي ومقاومة الحكم المطلق في عديد من الدول الاسلامية. جمال الدين الافغاني ونمو الحركة الدستورية في ايران ذكرنا آنفاً أن أَحد العوامل البارزة التي أثرت في إسهامات جمال الدين السياسية هي طبيعة العلاقة التي تربط بينه وبين الدول التي زارها وفي هذه الفقرة ويتركز حديثنا عن نشاطه السياسي والارشادي في ايران عندما كانت دعوته في أوجها فقد قدم جمال الدين الى ايران بعد أن تم ابعاده من تركيا ومصر واوقفت (جريدته العروة) التي كان يصدرها في باريس وكان ذهابه الى ايران بدعوة من الشاه وكان يرمي الشاه بدعوته الى مغزى سياسي لرغبته في أن يحتل مكانة ملحوظة في العالم الاسلامي باستقدامه جمال الدين والاستفادة من خبراته في المجالات العسكرية وقد ظلت العلاقة بينه وبين الشاه طيبة في بادئ الأمر حيث عينه وزيرا للحربية الا انه بمرور الوقت بدأ الايرانيون يلتفون حوله ويأخذون بآرائه السياسية والدينية الاصلاحية وأصبح ذو سلطة قوية أدت إلى خشية الشاه له وتوجس قلق العلماء من أفكاره التجديدية في الدين ولما أحس بالضيق والاضطهاد غادر ايران متوجها الى روسيا ثم عاد للمرة الثانية الى ايران تحت الحاح الشاه عليه في العودة وكان يأمل جمال لدى عودته باحداث الاصلاح المرجو في ايران – وعند عودته عينه الشاه رئيساً للوزراء وزاد اختلاطه بالمعجبين بأفكاره وآراءه وهكذا فقد جمع بين السلطة العلمية والعملية وقد طلب فيه الشاه آنذاك أن يضع قوانين دستورية للبلاد وقد وضعها بالفعل ووافق عليها الشاه الا انها لم ترضي أصحاب النفوذ من امثال »أمين السلطان« عليه فقد اوعزوا الى الشاه بان هذه القوانين التي وضعها جمال الدين كفيلة بانهاء حكمه وتقويض عرشه وهكذا مرة اخرى ساءت معاملة الشاه للسيد جمال الدين الامر الذي دفع به الى مغادرة طهران الى بلدة »شاه عبد العظيم«حيث تركز نشاطه على ضرورة الاصلاح في ايران، هذا وقد تركز نشاط جمال الدين لدى قدومه الى ايران على نواحي ثلاث: مقاومة الحكم المطلق والمطالبة بالحكم الدستوري، ومقاومة التدخل الاجنبي في ايران واثارة الوعي القومي، ودعوة الايرانيين الى الاتحاد مع الافغانيين. ولدى اقامته في »شاه عبد العظيم« اهتم جمال الدين بالدعوة الى الاصلاح الدستوري والديني ووجدت تعاليمه انتشاراً اكبر وسط مختلف الطبقات من الايرانيين، »وأخذ العلماء والوزراء والضباط يفدون اليه ليستمعوا الى خطبه ويصغوا الى آرئه ويعودوا الى طهران وقد امتلأوا قوة وحماساً ورغبة في الاصلاح«([301]). وهكذا اصطدمت آراء جمال الدين السياسية الحرة مع نزعة الشاه الاستبدادية ورغبته في السيطرة على كل شؤون البلاد وبدأ الشاه يخشى كثيرا على ملكه الامر الذي دعاه الى اعتقال جمال الدين لدى مرضه وانتهز هذه الفرصة ونفاه الى الحدود التركية([302]). الا أن ذلك حدث بعد أن احدثت ثورة جمال الدين مفعولا في وسط الايرانيين كما أن نفيه والمعاملة السيئة التي وجدها من قبل الشاه جعلت الشعب الايراني يثور، كما أن جمال الدين نفسه اصر على أن يواصل محاربة الشاه وحكمه المطلق، وقد تم بالفعل نفي جمال الدين الا انه وجد نفسه في مواجهة الشعب مهددا بأمرين لا ثالث لهما: 1ـ الخضوع لمقترحهم باجراء الاصلاح الدستوري. 2- التنازل عن الملك. ومما لاشك فيه أن نشاط جمال الدين الارشادي والسياسي في ايران كان له أثر مباشر في نمو الحركة الدستورية واصلاح الحكومة باشراك الشعب فيها خاصة وانه يردد دائما فضل الامة الايرانية على العالم الاسلامي وان دور ايران في هذا المجال لم يقض عليه سوى جور الملوك واستبدادهم([303]). واخيرا غادر جمال الدين ايران الا انه غرس في قلوب الايرانيين مبادئ النهضة ومناهضة الحكم الاستبدادي والتدخل الاجنبي. العراق يعتبر نشاط جمال الدين الافغاني في العراق ماهو الا امتداد لكفاحه في احداث الاصلاح في ايران ومحاربة الشاه والتدخل الاجنبي، فقد وصل جمال الدين الى العراق (البصرة) عام 1890م بعد ان نفاه شاه ايران الى البصرة وهناك عاود نشاطه السياسي ساعيا الى تقويض حكم الشاه، وفي تلك الاونة تعرضت ايران لظروف اقتصادية سيئة للغاية بسبب بذخ الشاه وسوء تدبيره الاقتصادي مما اضطره الى بيع بعض الحكومة الايرانية مثل حق استخراج المعادن من جميع المناجم الايرانية للاجانب واحتكار التمباك لمدة خمسين سنة بشروط بخسة ومن البصرة ظل جمال الدين يخاطب الشعب الايراني بمضار التدخل الاجنبي وبضرورة العمل على الغاء عقودات الامتياز الاجنبية – فقد كتب جمال الدين مقالات كثيرة في الصحف والقى خطباً كثيرة مندداً لمساوئ حكم الشاه واتاحته فرصة للنفوذ الاجنبي بالتغلغل في ايران ثم حرر خطاباً مفصلاً الى كبير المجتهدين طالباً اياه القيام بنصر الامة الاسلامية وحفظها من سلطة الاجانب موضحاً مضار امتياز شركة التمباك – صدرت على اثر ذلك فتوى حجة الاسلام بتحريم التمباك وتجاوب الشعب الايراني مع الفتوى بالاجماع على الرغم من ولعهم بشرب التمباك والفوائد المالية التي كانوا يجدونها من تجارتها. وهكذا بالجهود الارشادية والسياسية لجمال الدين وجد الشاه نفسه مضطر اللاذعان لرغبة الشعب في الغاء الامتياز الممنوح لشركات الاحتكار – ودفعت الحكومة الايرانية تعويضا مالياً عن ذلك – الا انه بالرغم من الخسائر المالية فقد اكتسب الايرانيون قوة القيام بنهضة عظيمة في سبيل حريتهم – وبالنظر الموضوعي لهذه التغيرات يعتبر جمال الدين قد نجح في دعوته وانقذ ايران من احتلال الانجليز بنجاحه في احداث الغاء احتكار التمباك وابراز دور نفوذ العلماء في تحويل نظام الحكم الاستبدادي الى نظام للشورى والمشاركة الشعبية في الحكم ولما كان جمال الدين مدركاً لسياسة الانجليز للتفريق بين المسلمين واذكاء الفتنة بين افغانستان وايران حتى يخلو لهم الحكم في الهند ويحكموا قبضتهم على هاتين الدولتين نبه جمال الدين الى خبايا السياسة الانجليزية منادياً بالوحدة بين افغانستان وايران مترجماً بذلك امله في تكوين الجامعة الاسلامية ولم تنجح مساعيه في توحيد الدولتين الا ان نجح في احداث الوعي القومي في ايران وغيره من بلاد العالم الاسلامي. تركيا كان جمال الدين الافغاني في دعوته لتكوين الجامعة الاسلامية يهدف الى أن تكون الجامعة تحت سلطة خليفة واحد دون الاهتمام بشخص او جنسية هذا الخليفة وفي بادئ الامر اتجهت اماله نحو ايران كمركز للبعث في العالم الاسلامي الا انه كان يؤمن بأن (تركيا اقوى دولة في العالم الاسلامي – آنذاك – وفي استطاعتها احياء الخلافة الاسلامية ومع ذلك كان حريصاً ويقظاً على أن لا تكون الجامعة أداة لتحقيق مآرب خليفة او سلطان). وفد جمال الدين الى تركيا عام 1870م منفياً من مصر وبدعوة من السلطان التركي حيث رحبت به الحكومة التركية والتف حوله العلماء والادباء والاعيان وعين عضواً في مجلس المعارف للاستفادة من أفكاره وبدأ جمال الدين بمحاولة إصلاح المناهج التعليمية الا أن في هذا بدأ الخلاف يدب بينه وبين شيخ الاسلام وقد بلغ هذا الخلاف أشده إثر خطاب ألقاه جمال الدين عن الصناعات علما بأنه عرض الخطاب قبل القائه على اعضاء مجلس المجالس وابدوا رضاهم عنه ـ في خطابه عن الصناعات ـ ابرز جمال الدين بعض من عناصر دعوته الشاملة حين شبه الامة بالجسد الواحد وان المعيشة الانسانية مثل الكائن الحي وحيث لا حياة للجسم بدون اعضاء، ايضا لا حياة للامة بدون الصنعات معددا الاعضاء ومشبها الملك بالمخ ـ مركز التدبير ـ اما روح الجسم (الامة) اما ان تكون النبوة اي منحة الهية دونما كسب واما ان تكون الحكمة والتي يمكن اكتسابها بالفكر ولاشك أن هذه الفكرة هي مشابهة الى حد كبير لنظرية المماثلة العضوية لدى علماء الاجتماع الغربيين الا انها ليست معارضة للفكر الاسلامي في شي ء ـ إلا انه مع ذلك لم يرضى شيخ الاسلام عن افكار جمال الدين هذه واتهمه بالتشكيك في العقيدة وبقول أن النبوة صنعة فكرية وليست منحة الهية ـ اشتد الصراع بين جمال الدين وشيخ الاسلام التركي انشق على اثره الرأي العام في تأييد الطرفين وتجمع شيخ الاسلام في ابعاد جمال الدين عن تركيا الا أن جمال الدين قد نجح قبله في أن يترك اثرا كبيرا في نفوس الاتراك خاصة الشباب منهم الذين تلقوا مبادئة الحرة وآراءه السياسية([304]). وبينما هو في اوروبا تلقي جمال الدين الافغاني دعوة من سلطان تركيا آنذاك عبد الحميد بالعودة الى تركيا ـ وبالفعل عاد اليها عام 1892م واحسن السلطان عبد الحميد استقباله الا انه لم تمض فترة وجيزة حتى بدأ السلطان يتوجس من نشاط جمال الدين وأفكاره السياسية والدينية – فبينما كان السلطان يريد الاستفادة من جهود جمال الدين في سبيل الجامعة الاسلامية لتوطيد سلطانه كان جمال الدين حرياً على أن لا تكون الجامعة الاسلامية اداة لقضاء مآرب السلطان ومن ثم شدد السلطان رقابته على جمال الدين وبدلا من نفيه من تركيا حظر عليه الخروج منها لان السلطان كان يخاف من جمال الدين في الخارج اكثر مما يخافه في الداخل »وقد بلغ الضيق بجمال الدين حدا جعله يستعين بمستشار السفارة الانجليزية ليساعده في مغادرة تركيا الا انه لم ينجح في ذلك وظل حبيساً بتركيا حتى مرض ووافته المنية عام 1897م، ومايدل على قوة اثر جمال الدين هو ان السلطان عبد الحميد كان ضائقاً منه حتى بعد موته حين امر بعدم اقامة احتفال لتشييعه او الكتابة عنه في الصحف كما امر بمصادرته. وهكذا انفقت حياة جمال الدين الافغاني احد كبار المفكرين والاصلاحيين في العالم الاسلامي في العصر الحديث، مات الا انه ترك ارثاً فكرياً وسياسياً ودينياً هاماً للامة الاسلامية خاصة وللمجتمع الانساني عامة. نشاطه السياسي والارشادي في اوروبا عرف جمال الدين الافغاني بعدائه الشديد للاستعمار الاوروبي والاستبداد السياسي بوجه عام وببغضه الشديد للسياسية البريطانية في البلدان الاسلامية على وجه الخصوص - الا انه كان موضوعياً حيث لم يقترن هذا العداء السياسي بعداء علمي او فكري ضد الغرب بل على العكس من ذلك كان ينادي في دعوته الاصلاحية بالعودة الى الدين الاسلامي وتفسيره تفسيرا يتلائم مع مقتضيات العصر »مع الاستفادة من تفكير الغرب بالقدر الذي ينهض بالبلاد الاسلامية«. وتجدر الاشارة الى أن جمال الدين نفسه كان ملماً الماماً واسعاً بالنظريات والعلوم الغربية مدركاً لحاجة العالم الاسلامي للاقتباس من حضارة الغرب ومدركاً ايضا لخطورة امتداد النفوذ الغربي على العالم الاسلامي والنظرة العدائية من قبل الدول الاوروبية للاسلام ومحاولات القضاء على كل حركة اسلامية للاصلاح والنهضة. إن المعرفة الواسعة بشؤون الغرب الفكرية والسياسية وادراك ترابط مصالح العالم الاسلامي بالغرب على الرغم من العداء المستحكم بينهم ساعدت جمال الدين الافغاني في أن يتخذ من اوروبا نفسها منبرا لدعوته السياسية والدينية حيث أن الحرية الفكرية وحرية التعبير التي كانت متاحة في بعض العواصم الاوروبية لم تكن متوفرة بنفس القدر في العالم الاسلامي ، فضلا عن ذلك فقد اتجه جمال الدين الى اوروبا هروباً من الاضطهاد الذي كان يجده في بعض الدول الاسلامية. وهكذا نجد ان جمال الدين طاف العديد من الدول الاوروبية ومارس بها نشاطه ومن هذه الدول نذكر، روسيا، بريطانيا، فرنسا، المانيا، يلاحظ إن جمال الدين قد تركز اهتمامه على استخدام الصحافة كوسيلة فعالة وسهلة التداول في نشر افكاره على اوسع نطاق. فرنسا ـ باريس ظل جمال الدين متنقلا بين المدن الاوروبية في الفترة مابين 1882 – 1886 م وتوجه الى باريس عام 1884م قاصدا اصدار جريدة تعبر عن افكار جمعية العروة الوثقى التي كانت تجمع مسلمين من مختلف البلدان – الهند – مصر – سوريا – شمال افريقيا وقد اختارت الجمعية أن تكون لها جريدة باللغة العربية تصدر في مدينة تمتاز بالحرية الفكرية مثل باريس واوكلت الجمعية مهمة اصدار الجريدة لجمال الدين الافغاني وتلميذه محمد عبده الذي عمل جاهدا مع استاذه في اصدار الجريدة وتنظيم أعمال جمعية العروة الوثقى. وقد تلخصت اغراض الجريدة في دعوة المسلمين الى التضامن والتمسك بأصول الدين وتقوية الصلات بين الامم الشرقية وتمكين الالفة والمودة بينهم ودحض المزاعم القائلة بأن التمسك بالدين الاسلامي يحول دون التقدم والمدنية وافهام الشرقيين بأن ما آل اليه حالهم هو بسبب تفريطهم في واجباتهم وحثهم على مناهضة الاستعمار ومهاجمة السياسة الانجليزية في الشرق عامة وفي مصر بصفة خاصة واحاطة الشرقيين بما يهمهم من احداث العالم وتوضيح الوسائل العملية لهم لتداراك مافات وتأكيد أن النجاح قريب وممكن. كانت جريدة العروة الوثقى توزع مجاناً على جميع من يطلبونها حيث كانت الجمعية تتولى دفع تكاليف اصدارها وكانت توزع على دول كثيرة واصبحت ذات اثر واضح وبالتالي وجدت معارضة شديدة ليست من دول اوروبا مثل انجلترا التي شعرت بخطورة الجريدة على سياستها في الشرق وحسب وانما ايضا وجدت المعارضة والخطر من قبل دول اسلامية مثل مصر وقد وضعت الجريدة بأنها من القوة في التأثير بدرجة اهتز منها الانجليز حكومة وشعباً وجلعوا منها خصماً لهم يكافحونه ويحاربونه تارة بالمصادرة وتارة بالكتابة عنها والدعاية ضدها مع الالحاح على ايجاد وسيلة لمنع الجريدة من الدخول في البلاد الهندية والمصرية([305]). وقد تناولت الجريدة موضوعات عديدة وركزت على الوحدة الاسلامية وعن المبادئ الاسلامية في الاخلاص وضرورة التكاتف والتعاون والاخلاق في العمل حيث كتب جمال الدين في هذا الامر قائلا: »... الاتفاق والتضافر على تعزيز الولاية الاسلامية من أشد أركان الديانة المحمدية والاعتقادية ومن أولويات العقائد عند المسلمين.. أرجوا أن يكون سلطان جميعهم (المسلمين) القرآن وواجهة وحدتهم الدين، كل ذي ملك على ملكه يسعى بجد لحفظ الاخر وأن هذه الوحدة لا يمكن بلوغها الا بالعمل والاخلاص فيه – وهنا نلاحظأان جمال الدين ظل متمسكاً بفكرة الجامعة الاسلامية الا انه عدل عن وجود خليفة واحد يأتمر كل المسلمون بأمره، على الرغم من أن الجريدة استمرت فترة وجيزة في الصدور ولم يصدر منها أكثر من ثمانية عشر عددا الا أنها احدثت اثرا كبيرا في العالم الاسلام وبتالي زادت عليها الرقابة الى أن انتهى بها الامر الى التوقف عن الصدور، على اثر ذلك ظل جمال الدين متنقلا بين المدن الفرنسية كاتباً في صحفها ومعبرا عن افكاره السياسية والدينية الى أن توجه قاصداً ايران في عام 1886م بدعوة من شاه ايران. بريطانيا ـ لندن ظل جمال الدين الافغاني طول حياته عدوا لدودا لبريطانيا فكان ينفي سياستها في الشرق الاسلامي ويتحين لها الفرص لتقويض دعائم سلطانها واقصائها عن بلاد الشرق ولكن لم يمنعه هذا العداء من السفر والاقامة ومزاولة نشاطه السياسي بالعاصمة البريطانية لندن، كما لم يمنع عداءه الواضح للانجليز أن يأخذوا براية في أمور تتعلق بشؤون الدول الاسلامية الواقعة تحت النفوذ البريطاني مثل السودان. عندما قدم جمال الدين الى لندن من العراق عام 1892م ساهم في اصدار مجلة شهرية تسمى »ضياء الخافقين« تصدر باللغتين العربية والانجليزية تناول فيها مساوئ الحكم في ايران واستبداد الشاه وتبديده لاموال الشعب وكان قد ركز اهتمامه على محاربة شاه ايران من خلال المقالات التي كان يكتبها عن مصر وايران كما كان يحث الادارة البريطانية على خلع الشاه من السلطة. وتذكر على سبيل المثال مقالة عن ايران في العدد الاول من »ضياء الخافقين«: إن لصلاح الفارس دوياً في آفاق الارض.. فلا آمان في تلك البلاد وإن قاطبتها لايرون وسيلة لصوت الحياة من اثبات الظلم الا الفرار فهرب خمس الايرانيين الى الممالك العثمانية والبلاد الروسية لأنه لاحد في الاقطار الايرانية للضرائب والجبايات وان الحكومة... الخ: أليست هذه الامة الايرانية.. التي احيت العلوم في العالم الاسلامي واقامت الديانة على دعامة الحق بقوة براهينها وقومت اللغة العربية بعالي تصانيفها... أين العلماء... وأين حملة القرآن وأين حفاظ الشرع.. والقائمون بأمر الأمة وأين لقراء الحق والعدل.. الخ.. وقد كانت لمقالات جمال الدين هذه ابلغ الاثر في اذكار روح الثورة في الايرانيين ضد الشاه وحكومته والنفوذ الاجنبي وعملائه.. وقد حاول الشاه بواسطة سفيره في لندن ارضاء جمال الدين بالمال الا انه لم يقبل ذلك فهو بزهده لم يكن ممن يتاجرون بأفكارهم، فضلا عن ذلك فقد ظل خانقاً على الشاه للاهانة التي الحقها به عندما كان في ايران »بشاه عبد العظيم«. جمال الدين في روسيا جعل جمال الدين الافغاني من اوروبا الشرقية ايضا منبراً لنشر دعوته الاصلاحية في اوساط المسلمين على نطاق العالم – توجه جمال الدين الى روسيا عام 1886م عندما ساءت معاملة شاه ايران له وبقي في روسيا ثلاثة أعوام حيث وجد فيها حسن الاستقبال والترحاب خاصة بالعاصمة الروسية آنذاك »بطرسبرج« وعلى الرغم من عدم وجود تفاصيل واقعية عن حياة جمال الدين في هذه الفترة التي مضاها بروسيا حيث تركز نشاطه على العمل الصحفي فقد كتب مقالات عديدة عن سياسة افغانستان – ايران – تركيا وسياسة بريطانيا في الشرق الاسلامي كما عمل جاهدا في اقناع قيصر الروس على تحسين معاملة المسلمين هناك والذين كانت اعدادهم ليست يسيرة اذ بلغت حوالي الثلاثين مليون مسلم الا انهم كانوا يعاملون معاملة جائرة فقد نجح جمال الدين في أن تسمح لهم السلطات الروسية بطباعة المصحف الشريف وبعض من الكتب الدينية، تجدر الاشارة الى أمر هام هو أن جمال الدين الافغاني ظل طوال فترة اقامته هناك ملتزماً بمبادئه وافكاره في الدعوة والارشاد ملتزما بصراحة رأيه في شؤون السياسة وامور المسلمين وضرورة اقامة الحكومة الشورية ومشاركة الشعب في الحكم وكانت افكاره من الصراحة والقوة بحيث جعلت قيصر روسيا يخشى انتشارها وسط المسلمين الروس مما ادى الى ابعاده من روسيا بطريقة دبلوماسية دون احداث اساءة له. فغاد ر روسيا متوجها الى باريس لمواصلة كفاحه من خلال العروة الوثقى – هكذا نرى إن جمال الدين قضى حياته متنقلا بين دول العالم الاسلامي والاوربي ناشرا افكاره السياسية والدينية بهدف تحقيق الوحدة الاسلامية واصلاح الفكر الديني لدى المسلمين ومناهضة الاستعمار الغربي للشرق الاسلامي واقامة نظم للحكم في البلدان الاسلاميةتستند الى الشورى ومشاركة الشعب. موجز البحث برز جمال الدين الافغاني كمفكر اسلامي اصلاحي رائد في القرن التاسع عشر الميلادي في وقت تدهورت فيه الدول الاسلامية وتعرضت لتسلط النفوذ الغربي عليها، وقد أكد المؤرخون على مختلف مشاربهم الدينية والسياسية أن جمال الدين الافغاني مفكر اسلامي رائد في جمال الاصلاح السياسي والديني في العالم الاسلامي الحديث وترك إرثاً فكرياً هاماً في مجال التجديد في الدين والاصلاح السياسي والادبي. وقد اختلف المؤرخون كثيرا حوله اصله ونشأته الا أن ذلك الاختلاف ليس له اثر يذكر على اسهاماته على مستوى العالم الاسلامي ككل – وكشأن كثير من الرواد المصلحين تعرض جمال الدين الافغاني لكثير من النقد والمعارضة كما تعرض للنفي والاضطهاد في سبيل نشر دعوته. تجدر الاشارة الى أن أحد عناصر قوة افكار جمال الدين وقدرتها على التأثير والاقناع تأتي من محاولته الدؤوبة لافهام الشعوب الاسلامية بأن الدين يخاطب العقل وانه يهتم ويجمع بين امور الخلق في النواحي الروحية والاخروية وايضا النواحي المادية الدنيوية – فضلا عن ذلك كان جمال الدين واسع الاطلاع في العلوم الاسلامية بفروعها كما كان ملما بالفلسفات الشرقية والنظريات الغربية وعالما بأفكارها الفلسفية الا انه لم يكن لافقاً لها بالجملة والتفضيل انما كان يقبل منها ما يتوافق وروح الاسلام هكذا فقد ظلت قنوات التواصل الفكري مفتوحة بينه وبين العالم الغربي والشرقي الاسلامي على حد سواء، الشيء الذي ادى ببعض علماء الدين الاسلامي الى اتهامه بالزندقة والبزوخ عن الدين الاسلامي الا انه ظل مدافعا طوال حياته عن الدين الاسلامي ومزاياه الفريدة في اسعاد البشرية. كانت دعوة جمال الدين الاصلاحية مشابهة في نواحي كثيرة لدعوات اسلامية اصلاحية تحررية مثل السنوسية في ليبيا والمهدية في السودان والوهابية في الجزيرة العربية الا انها تميزت عنها بأنها لم تكن محدودة ببلد اسلامي معين، كما انها كانت حركة شرقية اسلامية فيها اتجاه للغرب ولكن مع ايمان بالشرق وتراثه وتقاليده أي انها كانت تجمع بين ما نسميه في الوقت الحاضر بالاصالة والمعاصرة([306]). من ناحية اخرى تميز جمال الدين بسمات شخصية كثيرة اهلته للزعامة الفكرية والسياسية ومن ضمن هذه السمات الذكاء وسعة الاطلاع والجرأة والزهد الا انه ايضا اتسم بالحدة وسرعة الغضب مما اكسبته عداوة بعض الحكام والعلماء. نجد ايضا أن الظروف الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة في الشرق الاسلامي قد مهدت لافكار جمال الدين الانتشار الواسع حيث اشتد الضغط الاوروبي على الدول الاسلامية في وقت حفظت فيه بعض الدول الاسلامية مثل تركيا ومصر، ولما رأت الدول الاسلامية إن امتداد النفوذ الغربي اصبح خطرا مهددا ليكانها التفت حول جمال الدين الداعي الى الوحدة الاسلامية والتخلص من الاستعمار الغربي والاستبداد السياسي، كرس جمال الدين جهده واعمل ذهنه في احداث ثورة بعيدة المدى واسعة النطاق في العالم الاسلامي فنجده قد استهل جريدة العروة الوثقى بقوله: »لقد جمعت ما تفرق من الفكر ولملمت شعث التصور ونظرت الى الشرق واهله... وما آل اليه امرهم فالشرق الشرق فوجدت اقتل ادوائه داء انقسام اهله وتشتت آرائهم واختلافهم على الاتحاد واتحادهم على الاختلاف فحملت على توحيد كلمتهم وتنسيبهم للخطر الغربي المحدق بهم«([307]). ترجم جمال الدين فكرته المحورية »الجامعة الاسلامية« الى الواقع بالدعوة اليها بوسائل مختلفة – عن طريق القاء الدروس والمحاضرات والعمل الصحفي والترحال والاتصال بدول العالم الاسلامي وغيره ولم تكن رحلاته المتصلة سوى حلقة واحدة ذات هدف واحد: توحيد كلمة المسلمين والدعوة الى الحرية الفكرية والحرية السياسية بالتخلص من الاستعمار. عليه لم يكن نشاطه يقتصر على كل دولة تناولناها بالتفصيل في هذا البحث وانما تتعداها الى نطاق اوسع فهو كان في لندن ونشاطه مركزا على مصر وايران وهو بالعراق كان جهده موجهاً لاصلاح ايران وهكذا فضلا عن ذلك فقد ترك أثراً واضحاً بكل دولة قرارها واقام فيها فقد احدث ثورة سياسية ونهضة ادبية وفكرية في مصر كما ساهم في تحسين اوضاع المسلمين في روسيا وايقظ الايرانيين الى ضرورة الاصلاح الديني واصلاح القوانين الدستورية حتى تلائم الشريعة الاسلامية وهو في باريس كان يخاطب العالم الاسلامي اجمع من خلال جريدة العروة الوثقى مذكرا المسلمين بسالف امجادهم عندما كانوا يسيرون على نهج الله مؤكدا لهم ان الاسلام دين عقل وعمل – كما كان جمال الدين يتخذ مواقع استراتيجية لنشر دعوته فقد غادر البصرة متجهاً الى لندن بقصد محاربة شاه ايران بتأليب الانجليز ضده. والامر الذي يؤكد عالمية افكار جمال الدين الافغاني ليس تجواله في مختلف الدول وانما تأثيره ونفوذه الى افكار الشعوب الاسلامية وهو بعيد عنهم جغرافياً اذ لم يكن نشاطه ابدا محصورا بالحيز الجغرافي الذي حل فيه – وليس ادل على ذلك من رفض السلطان عبد الحميد له مغادرة تركيا عندما أراد جمال الدين ذلك لما احس به من المراقبة وسوء المعاملة هناك – وقد رفض له السلطان عبد الحميد مغادرة تركيا لانه يخاف منه في الخارج اكثر مما يخافه في الداخل وظل السلطان عبد الحميد يخشاه حتى بعد أن توفى الى رحمة مولاه حيث أمر السلطان بعدم الاحتفال بتشيعه وصودرت ممتلكاته من اوراق وغيرها. وعلى الرغم من أن جمال الدين قد ركز اهتمامه السياسي والديني على »الامة الاسلامية« الا ان افكاره من السعة بحيث شملت المجتمع الانساني بأسره بتهمة الواسع للدين – فقد نادى بمبادئ اساسية تعتبر ركائز للحياة الانسانية الكريمة واهم هذه المبادئ هي الحرية الفكرية والسياسية وتأكيد مبدأ الشورى والمشاركة في الحكم والسلطة كما نادى بأهمية الاعتدال في كل الامور وضرورة العمل والاخلاص فيه لتقدم الامم كما ركز على ضرورة التعاون والتكاتف لبقاء المجتمع الانساني بصفة عامة والامة الاسلامية على وجه الخصوص. مضى الان قرن من الزمان على وفاة المفكر الاسلامي الرائد جمال الدين الافغاني كما تغيرت الظروف السياسية والاجتماعية عن تلك التي كانت سائدة في زمانه الا انه على الرغم من ذلك كله لاتزال افكاره ذات اهمية وصلة وثيقة بعالم اليوم فانه بلاشك من الفائدة بمكان اعادة قراءة افكار الافغاني على ضوء معطيات العصر وتجد حينها انه شكل حلقة وصل بين الماضي والحاضر والمستقبل. المراجع 1ـ محمد سلام مدكور – جمال الدين الافغاني – باعث النهضة الفكرية في الشرق – 1927م. 2- د. عبد الباسط محمد حسن – جمال الدين الافغاني واثره في العالم الاسلامي الحديث – مكتبة وهبة 1982م. 3- د. عبد النعيم حسنين – حقيقة جمال الدين الافغاني – دار الوفاء – 1988م. 4- محمد الخير عبد القادر – الاسلام والغرب – دراسة في قضايا الفكر المعاصر – بيروت 1991م. 5- عبد الرحمن الرافض – جمال الدين الافغاني – باعث نهضة الشرق – سلسلة اعلام العرب العدد 61/1966م. 6- السيد جمال الدين الافغاني، والشيخ محمد عبده – العروة الوثقى والثورة التحريرية الكبرى – دار العرب 1957 – الطبعة الاولى. 7- Elie Keclovrio: Afghani and Abdoh An Essay On Religovs Unbelief and P oliticaf Activism in 190 dern Islam – London – 1966.