بين دان فودي والمهدي والافغاني حسن مكي محمد أحمد جامعة افريقيا العالمية ـ الخرطوم أما عثمان دان فودي([311]) فقد سعي لكسب انسان غرب افريقيا لدعوة الاسلام واستعادة انسان غرب افريقيا لصف الاسلام وقد نجح في مشروعه واقام خلافة اسلامية ابتداء من عام 1813 نشرت العلوم الإسلامية ولمدة مائة عام الى أن أطاح الانجليز بهذه الخلافة في عام 1903م. اقام الشيخ عثمان دولة اسلامية قائمة على مفهوم دار الاسلام والامة وقام عقدها الاجتماعي على البيعة، وبرزت عبقريته الدعوية والسياسية في نجاحه على القضاء على شبه الكيانات القبلية في بلاد الهوسا والتي كانت تمثل نموذجا من نماذج النظم السياسية التقليدية الافريقية وصهر هذه الكيانات في خلافة اسلامية كبرى غطت مساحة شاسعة تقدر بنحو 150 الف ميل مربع. ويمكن أن نقول إن الشيخ المجاهد عثمان دان فودي، من أهم الشخصيات التي انجبتها أرض افريقيا، ان لم يكن اهمها على الاطلاق وذلك للآتي: *ـ لأنه أسس وبني حركة اصلاحية سمي المتنمين اليها بالاخوان كما تدل ذلك مؤلفاته مثل (نجم الاخوان) و(تنبيه الاخوان على احوال ارض السودان) و(تنبيه الاخوان على جواز اتخاذ المجالس لتعليم النسوان). *ـ احدث طفرة نوعية في حركة مجتمع افريقي انتقل به من طقوس اللادينية وفوضي الوثنية الى مجتمع دعوة ودولة اسلامية دون مرحلة انتقالية وتحضيرية طويلة. *ـ نشر اللغة العربية وادابها في طول وعرض بلاد الهوسا واعتمدها لغة رسمية للخلافة وكان يجيدها كتابة وكلاما مع انه لم يزر قط بلاد العرب واصبحت العربية بفضل الشيخ وجهوده لغة العبادة والجهاد والتجارة والمعاملات والثقافة والفكر. *ـ احياء فريضة الجهاد وقام الشيخ بواجب الجهاد وبنى دولته على اساس الجهاد والفتح والهجرة وقد وضع منهجاً من الدعوة الى الهجرة الى الجهاد كما ورد في كتابه (بيان وجوب الهجرة على العباد). *ـ ابرز النموذج الاسلامي في القيادة، فقد كان معلماً وصاحب درس للذكور وللاناث، كما كان شاعرا استخدم الشعر في حمل معاني الدعوة الإسلامية كما كان عالماً وفقيهاً مفتياً. *ـ نظر الى الامارة التي نجح في اقامتها من لاشيء بوصفها ثغرا من ثغور الاسلام يحيط به محيط من الملل الاخرى وكان يسعى لوضع نواة لمرتكزات انطلاق تهيء غرب افريقيا للالتقاء بالمد الاسلامي المتوقع في مراكز العالم الاسلامي مثل الحجاز والشام والسودان، حتى توهم بعض أتباعه أنه هو المهدي فأنكر ذلك وافمهم انه مجرد جندي في صفه ومهمته تهيئة الاوضاع تحسباً لظهوره. *ـ قامت حركته على اساس فكري متين، مهد له بمئة مؤلف أو تزيد، ثم تتابعت حركة التأليف والانتاج الفكري على ايادي احفاده وتلامذته مما جعل الحركة ترتكز على اعمدة فكرية وثقافية راسخة، مكنتها من تجاوز الاجتياح الانجليزي، اذ برغم الاستعمار الانجليزي والفرنسي لغرب افريقيا الا ان روح الثقافة الإسلامية ظلت منفذه في الشعب ومايزال شمال نيجيريا عامر بالمساجد والمدارس الإسلامية وماتزال الثقافة الإسلامية أكبر عامل مشكل لحركة المجتمع ومايزال المجتمع متمسك في اخلاقه ومراسيم زواجه وموته تفاعلاته بالثقافة الإسلامية وكل ذلك مستمد من المدد الفودي ومايزال المدد الفودي هو الحصن الحصين الذي تتحصن به نيجيريا من ضغط الاستلاب الحضاري الغربي ولايكاد يكون من الممكن تخيل اوضاع الثقافةالاسلامية في نيجيريا دون دان فودي فبدون دان فودي كان سيكون حال نيجيريا حال زائير او ما شابهها ولكن نيجيريا اليوم دولة اسلامية تحتضن قرابة التسعين مليون مسلم وتشهد حركة صحو اسلامية تتكامل يوما بعد يوم قد تجعلها ذات يوم من الدول الإسلامية ذات البأس. لقد انصرم مابين موت دان فودي في 1813 ومولد الافغاني في اسد آباد في حوالي عام 1838 - خمس وعشرون عاما، تطورت فيها الاوضاع في افريقيا والعالم الاسلامي على نحو محزن، اذ دان فودي في كل جهاده لم يصادم اوربياً او اجنبياً وكان جهاده ضد القوى المحلية – لذا كان الصراع صراع انداد متكافئين انتصرت فيه قوى الايمان والخير ضد قوى التخلف والوثنية. ولكن برز الافغاني في عصر جديد، اصيبت فيه الامة الإسلامية بداء جديد، هو داء الاستعمار الاوروبي والذي بدأ باستيلاء نابليون على مصر في 1798 وفرنسا على الجزائر 1830 وتوغل شركة الانجليز المعروفة باسم شركة الهند الشرقية في انحاء الهند ابتداء من عام 1839، وحينما استوى عود جمال الدين كان الاستعمار قد اطبق تماما على العالم الاسلامي وتغلغل تماما في الدول العثمانية والتي امتدت بها الايام لا لشيء الا لان الدول الاستعمارية فشلت في الوصول الى صيغة تقسيمها. يمكن اختزال تجربة جمال الدين في مقارعة الاستعمار في الآتي: *ـ محاولة اصلاح العالم الاسلامي باصلاح اوضاع الحكام والتأثير عليهم وتوعيتهم واثار اهتمامهم بقضايا مواطنيهم وقضايا العالم من تربته في افغانستان عام 1868 حيث دخل في حكومة الامير الافغاني المعادي للانجليز »محمد اعظم خان« وكان عمره حينها ثلاثون عاما ثم انتقل الى القاهرة 1869 – ثم الاستانة ليتعرف على السلطان عبد الحميد وهناك دخل في صراع مع الادارة الدينية للسلطان عبد الحميد وطلب منه الاخير مغادرة الاستانة لفترة مؤقتة ريثما يهدأ الصراع ووصل القاهرة عام 1871 – حيث عكف كذلك على الاتصال بالخديوي توفيق([312]) عسى أن. يخرج من بين يديه بشيء ولكنه طرد مرة اخرى من مصر في اغسطس 1879 كما جرب ذلك في ايران، حينما سعى في اصلاح أمر الشاه ناصر الدين شاه إيران ولكن لم يلاحظه احسن، حيث طرد كذلك من إيران وحاول في اخر ايامه أن يتعاون مع السلطان عبد الحميد في أمر ترويج فكرة الجامعة الإسلامية لتجديد حياة الدولة العثمانية ولكن دبرت له هناك مكيدة الاهتلاك بالسم فمات في عام 1897 عن 59 عاما. * محاولة اصلاح اوضاع العالم الاسلامي بانشاء صفوة من التلاميذ امثال محمد عبده يقومون بتحديد الاوضاع الفكرية والثقافية والسياسية ولكن انتهى كثير من تلامذته الى ضرورة التعاون مع الانجليز على الاخص بعد وفاة الافغاني وابرز مؤسس لهذه المدرسة هو محمد عبده الذي انصرف من السياسة الى التربية واصبح من المتعاونين مع المعتمد الانجليزي »كرومر«. *ـ انشاء الجمعيات السرية كاداة من ادوات الثورة كما برز في حركة عرابي وكما حدث للشاه ناصر الدين الذي اغتاله احد تلامتذه وانشاء آلة دعاية لها على غرار مجلته »العروة الوثقى« ومن هنا اعتبر جمال الدين الاب الروحي للحركات الإسلامية والتي برزت كحركات اصلاح انتهجت اسلوب السرية واعتمدت اسلوب الواجهات من مجلات ومنشورات وغيره. لقد كان الافغاني مشغولا بقضية محاربة الاستعمار الانجليزي – الذي كان يفترس وادي النيل والحجاز ومنطقة الخليج والهند ولكنه لم ينتبه الافغاني الى الاستعمار الفرنسي الذي سبق الانجليز الى وادي النيل وشمال افريقيا، علما بان الاستعمار الفرنسي كان اشرس في حملته وسعيه الاستلابي الاستيعابي ولكن ربما كان ذلك نتيجة لوجود الافغاني لاجئاً في باريس فلم يكن من الممكن له أن يفتح اكثر من جبهة، كما ان وجود الاستعمار الفرنسي في شمال افريقيا – في منطقة لم يغشاها الافغاني حجب عنه خطورة الاستعمار الفرنسي. ومهما يكن، فان من اهم انجازات الافغاني في منفاه الاختياري بباريس، اصداره لمجلة »العروة الوثقى« والتي صدر اول عدد منها في 13 مارس 84 واستمرت ثمانية اشهر وتوقفت في اكتوبر 1884 بعد صدور ثمانية عشر عدد منها وقد عكست العروة الوثقى رؤية الافغاني، محمد عبده لقضايا العالم الاسلامي والتي كانت يبدو إن اهم قضاياه في تلك الفترة، قضية الثورة المهدية في السودان بدليل ان اعداد العروة الوثقى الثمانية عشر حوت في مجموعها 128 مقالة وخبرا وتخصص منها 52 مقالا وخبرا عن الثورة المهدية في السودان ومخطط الانجليز القضاء عليها ومحاولاتهم لانقاذ غردون من السودان ومعاركهم ضد ممثل المهدي عثمان دجنة في شرق السودان وسعيهم لفصل شرق السودان عن وسطه الخ.. ([313]). ويفصل الافغاني في مخطط الانجليز للاستيلاء على مصر وذلك باستخدام الجنرال غردون المحاصر في الخرطوم كقميص عثمان يلوحون به ويقولون ان انقاذه من الخطر ووسيلة خلاصة انما تكون باعلان السيادة الانجليزية المصرية([314]) ثم يتكلم عن ثورة المهدي قائلا (ماكان يحوم في خيال إن قائماً يسمى محمد أحمد يقوم بدعوة دينية في اعالي السودان وبعد ارغامه للانجليز مرات يحرك قلوب الهنديين ويوقظ نائميهم، ويثير الساكن من خواطرهم وينهض الهمم ويحيي الآمال فيهم بعد القنوط وتنتشر دعوته في أرجاء الهند، نعم ومن اين يكون للانسان علم هذه الحوادث وهي محجوبة بستار الغيب، فهو معذور في أحكامه مغسور على اوهامه([315]). ويتعجب الافغاني من استسلام العالم الاسلامي للانجليز ففي آسيا وحدها يسيطر الانجليز على الهند والهند الصينية وبورما على نحو مائتين وخمسين مليونا من النفوس جميعها كاره لتلك السلطة الانجليزية التي تسيطر عليهم بخمسين الف جندي انجليزي فقط – وان أصغر هذه الامم الخانعة يمكنها جمع قوة تتجاوز الثلاثمائة الف جندي ويمضي قائلا انه ليس في طاقة بريطانيا لو أفرغت جهدها أن تبعث إلى مصر والسودان ازيد من عشرين الف جندي – الا يعلمون انه اذا اشتغل الجند الانجليز بالسودان وحصلت حركة خفيفة في الشرقية والبحيرة والفيوم لارتبك الانجليز وخارت عزائمهم والتجأوا لترك البلاد لاهلها، الا قاتل الله الوهم([316]). ويخصص الافغاني مقالا بعنوان »زلزال الانجليز في السودان« والمقال ضرب من الحرب النفسية على الانجليز ومحاولة لنصرة المهدي لأنه يتكلم حتى بلسان السلطان العثماني ويقول إن السلطان العثماني راض عن ثورة المهدي (وقد استولى بذلك الاضراب والتشويش على افكار العساكر خوفاً وفزعاً – اي خوفا من جيش المهدي – ولكن لما أيقنوا به وأطمأنوا اليه من أن السلطان راض عن اعمال محمد أحمد بل صدرت منه التنبيهات الى جميع المؤمنين في تلك الاطراف بأن يتجنبوا محاربة هذا القائم وان يعتبروا الانجليز في منزلة العدو الالد ويقاوموهم مقاومة الآيسين)([317]). ويتهكم الافغاني على مايبديه الانجليز من دفاع عن الحرية ويقول إن غردون أعدى اعداء الديانة الإسلامية وانه جاء للسودان لنشر المذهب البروتستانتي بين مسلمي السودان وانه افتتح اعماله بمخالفة مشربه، فاعلن اباحة بيع الرقيق والغاء معاهدة سنتي 1877 - 1879([318]). وفي مقاله بعنوان جراهام وعثمان دجنة يقول: اما جراهام فهو قائد انجليزي شهير ارسل لمحاربة عثمان دجنة في شرق السودان يقول انه قد جاء في جرائد الانجليز ان الشيخ الميرغني وهو شيخ طريقة من المسلمين([319]) بعث الى عثمان دجنة رقيماً يستدعيه للطاعة، ويحذره من مقاومة العساكر الانجليزية، فاجابه عثمان دجنه بان في عزمه شرب دماء الانجليز وكل من يساعدهم فان يحارب بسيف الاسلام. وفي مقال آخر بعنوان »الشيخ الميرغني« يقول هذا مما يعجب منه إن شيخاً يظهر بين المسلمين بمظهر العلم والارشاد ثم يقود جيشاً انجليزياً لاذلال ابناء ملته واخوانه ودينه وجنسه، وهو يعلم أن شرفه شرفهم وسيادته بسيادتهم.. كيف يسوغ له أن يقدم جيوش الانجليز؟… وكتب الينا من مصر والحجاز إن جماعة من العلماء في القطرين حكموا بمروقه وقالوا إن هذا من اعظم الزلات التي لم يرتكب نظيرها في الاسلام([320]). اما عن صدى دعوة المهدي في العالم الاسلامي ، فيقول الافغاني إن جرائد الانجليز اشارت الى حدوث اضطراب عظيم في بخارى (طشقند) عندما سمعوا بانتصارات اعراب السودان وظهر فيهم داع جديد يحث على الحرب ومقاتلة الذين ينتهبون الاراضي الإسلامية واثبتت الجرائد الفرنسية إن وقوع الخرطوم في قبضة محمد احمد يكون له رجة هائلةواثر عظيم في تغيير الاحوال الحاضرة في البلاد الشرقية([321]) كما اشار الافغاني في موضع آخر قائلا (الاعتقاد بمحمد احمد اخذ سبيلا في قلوب الهنديين حتى كتب الينا احد اصدقائنا في لاهور إن محمد احمد لو كان دجالا لأوجبت علينا الضرورة ان نعتقده مهديا وان لا نفرط في شيء مما يؤيده([322]). ويقول الافغاني في مقالة تكشف عن بصيرة نافذة بعنوان انجلترا في سواحل البحر الاحمر (حيث يقول وعمدت – اي انجلترا – الى الاستنجاد بحكومة الحبش لحرب السودان، ولم يأخذها خجل في ذلك وهي تدعي انها حاملة لواء التمدن والقائمة بنصرة الانسانية وتتلو آيات الانجيل آناء الليل واطراف النهار، ثم تستدعي حكومة خشنة غير مهذبة كحكومة الحبش لمقاتلة قوم آخرين، وان كانوا ليسوا بأقل منهم خشونة لتشتبك حرب بربرية تحرق فيها المدن والقرى، وتستفك الدماء الغزيرة ويفتك فيها بالاولاد والنساء والشيوخ ومن لا جريمة لهم حتى يفني بعضهم بعضا، ولم تبال في التماس هذه المساعدة أن تصرح للحكومة الحبشية أن الغرض منها كبح المسلمين في السودان واضعاف قوتهم لتثير بذلك حرباً دينية تذكر بالحروب الصليبية، فقد جاءت الاخبار الى الجرائد الفرنسية ان دولة انجلترا تلتمس من »يوحنا« ملك الحبشة أن يمدها بجيوش للدفاع عن سواحل البحر الاحمر لعجزها عن حماتها بنفسها واطفاء ثورة المسلمين واخضاعهم وبعثت اليه قائد اسطولها ليتفق معهم على شروط هذه المساعدة وما يغنمه بعد القيام بها([323]). وكانما يستدير الزمان بهيئته، علىشاكلة زمان المهدي وجمال الدين والانجليز في منطقة البحر الاحمر، حيث تشتد هذه الايام (يناير 1997) الحرب في شرق السودان وتتولى كبر تحريض الجيش هذه المرة اسرائيل وامريكا لكسر شوكة الدولة السودانية الإسلامية وبذات المنطق والحجج والشخوص (مثل حفيد الميرغني) وتشن حرب اعلامية تبشر بانتشار الفوضي في السودان إن لم يتم القضاء على نظام الانقاذ ووردت ذات العبارت في جريدة الاستاندارد الانجليزية كما اورد ذلك الافغاني (وقالت جريدة »الستاندرد« ليس من الممكن لنا أن نتأخر دقيقة واحدة الا اذا اردنا أن نلقي »بجوردون« إلى هاوية الهلاك وبالسودان الى الفوضى). نعم لابد أن يخافوا على السودان من الفوضى كما خافوا على مصر منها([324]). وقد أدى حمل العروة الوثقى لاخبار مهدي السودان الى منعها من دخول مصر والهند وانعقد مجلس الوزراء المصري واصدر قراره بان كل من توجد عنده العروة الوثقي يغرم مبلغاً من خمسة جنيهات مصرية الى خمس وعشرين جنيها – وكان هذا مبلغاً عسيراً في تلك الايام. ويتابع الافغاني كشف منهج الانجليز في التغلغل في مصر والسودان (تريد حكومة انجلترا اذا عارضتها الدول في السيادة على مصر أن تنشيء لها سلطة في خرطوم يمتد حكمها الى جميع اراضي السودان، وعساكرها الآن حالة في سواكن وما اسرع ان تصل بين المدينتين بالسكة الحديد فتكون القوة الانجليزية بعد هذا محيطة بمصر من جميع الجوانب. وقفت على بابها من طرف الشمال في قبرص وطوقت حدودها من الغرب الى الشرق في السودان وتحكمت في منابع النيل)([325]). هذا ماكان من امر الافغاني ومناصرته للمجاهد السوداني محمد أحمد المهدي – ولكن من هو محمد أحمد – وماهي قصة ثورته وماهي ابعاد منهجه في العرفان والسلطان. اما المهدي وهو السيد محمد أحمد بن السيد عبد الله فقد عاش في ذات فترة الافغاني، اذ ولد في عام 1843 وتوفي في يونيو 1885([326]) وتاريخه الثقافي فيما قبل جهاده، قام على حفظ القرآن ودراسة الفقه والحديث والتصوف والتدريس وتميزت حياته بالزهد والتقشف وحبب هذا النهج الصارم في الزهد والتقشف فيه الناس حتى كثر انصاره ومريدوه مما أدى الى جفوة بينه وبين شيخه في الطريقة الشيخ محمد شريف وفي منتجعه ووسط تلامذته اخذت تهجم عليه الهواتف الروحانية والرؤى المنامية التي كان فحواها، بانه هو مخلص المسلمين مما هم فيه من ظلم وحيف وضيق بل انه هو المهدي المنتظر الذي سيحرر السودان من جور حكم احفاد محمد علي باشا في السودان ويحرر مابعد السودان من ظلم الترك والانجليز. وقد التف السودانيون حول المهدي للاسباب الآتية: *ـ نقاء المهدي وجديته وتقشفه وعلمه وورعه وصدقه الذي جعله لا يأكل من طعام قط دخل فيه مال الحكومة. *ـ ظلم حكومة ولاة احفاد محمد علي وما مارسته من عنف ضد الناس وما اخذت منهم من اموال بالمصادرة والضرائب بالاضافة الى الفساد الاداري والاخلاقي والمحاباة والمحسوبية. *ـ استعانة الحكومة بالنصارى امثال »غردون« و»بيكر« وسلاطين في حكم السودان، مما اضفى على الحكومة طابعاً مسيحياً استفز المسلمين ودفع المهدي لاعلان الجهاد. *ـ شيوع الفساد الاخلاقي وبروز التبشير المسيحي لاول مرة في تاريخ السودان بالاضافة الى استخفاف الحكومة بمركز المهدي. وكأنما كان المجتمع السوداني ينتظر فقط بروز القيادة الملهمة، وجاءته القيادة مسلحة براية المهدية والقطبية والخلاص المستوحى من اطروحات الصوفية. التف السودانيون حول المهدي ابتداء من 1880 وبدأوا حركة تحرير شعبي، نجحت في كسر شوكة الحكومة المصرية التي كان يرابض لها حوالي »40490) جندي على امتداد السودان([327]) وقد سار النصر في ركاب الفروسية والشجاعة والموت في سبيل نصرة الدين حيث انتصر المهدي على حاميات الحكومة والواحدة تلو الاخرى بل ونجح في كسر الجيوش التي جيشتها انجلترا وجعلت في قياداتها مشاهير رجالها مثل (هكس وبيكر وجراهام وغردون وستيورات) وفتح المهدي الخرطوم ينابر 1885 ومثل دخول المهدي للخرطوم اول هزيمة واضحة بينة تتلقاها انجلترا في القرن التاسع عشر، ولذلك جعلت انجلترا من قضية سحق المهدية قضية تتصل بالشرف القومي والثأر لعظمائها الذي سالت دماؤهم في ارض السودان – واجتهدت انجلترا ومعها الدول الغربية في ذلك – وبدأت بحملة (اللورد ولسلي) لانقاذ (غردون) بقوة فيها تسعة آلاف جندي([328]) انجليزي بالاضافة الى الجيش المصري وتسعمائة قارب نهري وعدد من السفن واثني عشر الف من الجمال بالاضافة الى الحمير والبغال – وقد استخدمت الحملة ثلاثة ملايين طلقة نارية لشق طريقها ولكنها باءت في النهاية بالخسران. توفي المهدي بعد فتح الخرطوم مباشرة ووقع عبء ادارة الدولة على خلفائه وتلامذته الذين بدأوا في كسب النقاط فيما بينهم، وبينما كانت الصراعات حول السلطة تتزايد، كان الغرب يخطط لاسترداد السودان ولم يفتر الغرب طيلة ثلاثة عشر عاما هي كل فترة خلفاء المهدي من العمل الدؤوب لاجهاض المشروع واتخذ هذا السعي مسالك شتى، بعضها تولته الكنيسة وبعضه اجهزة الاعلام وبعضه الاستخبارات بينما كانت الجيوش تتأهب للانقضاض، ثم جاء الجيشان الاثيوبي والايطالي من الشرق والجيشان الانجليزي والمصري من الشمال وعبر النيل، والجيش الفرنسي من الغرب والجيش البلجيكي من الجنوب الغربي، وكان الجيش الانجليزي ـ المصري قوامه 25 الف مقاتل، بينما الاثيوبي حوالي الثمانين الف مقاتل وبينما كانت الجيوش الايطالية والفرنسية والبلجيكية ذات نوعية وكفاءة ولكنها كانت قليلة العدد. واجهض المشروع المهدوي الذي هز العالم الاسلامي في جميع الاقطار وهاجر اليه جماعة مصر والحجاز والهند وبلاد المغرب قصد زيارته والوقوف على حاله ولو أطال الله في أمده وزاده في توفيقه لقلب وجه الشرق انقلاباً عظيماً، ومهما يكن فقد دخل »كتشنر« قائد الجيش الانجليزي الخرطوم الجمعة سبتمبر 1898، بعد أن حصد انصار المهدي بالسلاح الناري الفتاك، حتى قتل في واقعة واحدة هي كرري عشرة آلاف من الرجال ومثلهم من الجرحى وقد اظهر السودانيون في البسالة واحتقار الموت والاستهلاك في سبيل الدين مالا مزيد عليه. وقام »كشتنر« بهدم قبة المهدي ونبش قبره واخرج جثته حيث أرسل رأسه الى معرض التحف بلندن بينما بعثر العظام([329]) والقاها في النيل. ويستفاد من سيرة دان فودي والافغاني والمهدي الآتي: *ـ قدرة الحركة الإسلامية والخطاب الاسلامي على توحيد الجبهة الداخلية ومجابهة قضايا الداخل على غرار نجاح دان فودي في توحيد قبائل غرب افريقيا وكسر شوكة الممالك الوثنية واقامة خلافة اسلامية ولكن هذه الخلافة فشلت تماماً في التصدي لهجمة المشروع الغربي ممثلا في الجيش الانجليزي – وكذلك نجح الافغاني في اقامة علاقات مع كثير من حكام المسلمين وكان بعض هؤلاء الحكام راغبين في احداث نوع من الاصلاح ولكن نجح الغرب في اجهاض كل حركات الاصلاح واخماد كل صوت مناوء للمشروع الغربي كما حدث لثورة عرابي بعد موقعة التل الكبير، وكذلك نجح المشروع المهدوي في تحرير السودان ولكنه كسر تماما بعد أن عزل بواسطة الغرب والجيوش الغربية. لقد قامت دولة دان فودي على اسس تقليدية مستقاة من الكتاب والسنة ولكنها فشلت في احداث نهضة علمية تمكنها من مجابهة المشروع الغربي، كما فشلت جهود الافغاني في توحيد جهود الحكام المسلمين ضد الغرب كما لم يستطع الافغاني توليد حركات مقاومة طويلة النفث، كما ان ثقافة المهدي كانت في جوهرها ثقافة صوفية انعزالية، افلحت في انتاج مقاومة عالية ولكنها فشلت في توليد طاقات نهوضية وانتاجية، نجحت الثقافةالمهدوية في ادب التعبئة والجهاد والمقاومة ولكنها فشلت تماما في ابراز آًيات حوار وتفاهم مع المجتمع كما فشلت في فن استخدام السلطة كما أن ثقافتها الانكفائية فشلت في فهم سر النهضة وسر حركة النمو في الغرب مما يسر للغرب امر البطش بها. والعبرة انه لا جهود دان فودي العلمية والجهادية استطاعت الاستجابة لتحدي الهجمة الغربية ولا تنوير الافغاني وقدراته الفكرية والعلمية واحاطته ببعض اسرار تفوق الغرب مكنته من بناء حركات قادرة على تجاوز تحدي الغرب ولا رؤى المهدي وحماسته وتهويماته الصوفية أفلحت في تجاوز داعي الغرب، ويبدو أن تجاوز تحدي الغرب، في حاجة الى حكمة وروح دان فودي وتنوير واخلاص الافغاني وبسالة وتقشف المهدي بالاضافة الى صبر وعزيمة وحكنة الامام الخميني وبعد ذلك فاننا في حاجة الى صب طاقات الامة في الوحدة وفي الانتاج على الاخص في مجالات نشر المعرفة ومكافحة الفقر والنهوض بالمرأة وكسب التقنية الصناعية والزراعية والعسكرية. والله ولي التوفيق