المصلحة ودورها في التقريب بين المذاهب الإسلامية د. خالد زهري ([1]) إن الخلاف الحاصل بين المذاهب الإسلامية يجب أن يدرس على ضوء الأصول والمباني المعتمدة عندهم في التشريع والتقنين، لاسيما أن تضييق شقة الخلاف يعتبر واجبا شرعيا، وضرورة حضارية، مما يجعله من أهم المشاريع التي تحتاج إلى النظر الشرعي. فلا جرم أن علام شرعيا وحضاريا كهذا يستلزم دراسة علمية لأصول المذاهب ومبانيها المتفق عليها والمختلف فيها. وبما أن تحقيق النظر وإعمال الفكر في الأصول المتفق عليها لا يعتبر مسوغا حقيقيا للتقريب، لأنه لا يعبر عن واقع مشاهد وملموس، وهو حصول الخلاف بين المذاهب الاسلامية. فإن النقاش لا يكون مثمرا إلا إذا برّرته الأصول المختلف فيها. ومن هذا المنطلق، فإن أرضية تحقيق التقريب يجب أن تنبني على المناقشة المستفيضة، والدراسة العميقة، للأصول المختلف فيها، والمباني المتنازع حولها، وضبط الوجوه المنشئة للخلاف، مع إعادة النظر في هذا الخلاف: هل هو حقيقي أو وهمي؟ وهل هو صغروي أو كبروي؟ وقد ناقشت بعض هذه المباني في بعض بحوثي، حيث سلطت الضوء على وجوه الخلاف الحاصل في بعض الأصول، كالقياس، إذ بينت في كتابي «تعليل الشريعة بين السنة والشيعة» و«تذليل العقبات في طريق التقريب بين أهل السنة والشيعة الإمامية» أنه معمول به في كل المذاهب الإسلامية، وأن الفرق بينهم ينحصر في مدى تطبيقه سعة وضيقا، وجزمنا؛ من خلال ذلك؛ أن إثبات القياس أو إبطاله ليس مظهرا حقيقيا يميز هذا المذهب عن ذاك. كما ناقشت في الكتاب الأول أصل الاستحسان، وتوصلت بعد النظر في الوجوه المنشئة للخلاف بشأنه، وتحرير محل النزاع حوله، أنه لا يزيد عن كونه وجها من وجوه العمل بقاعدة التزاحم، وتوصلت إلى أنه بهذا المفهوم لا يخالف فيه أحد من السنة والشيعة. فالتقريب؛ إذن؛ يستلزم إعادة النظر في دعوى الخلاف حول الأصول، لاسيما تلك التي شكلت عقبة كأداء في سبيل التقريب. ولا يشك عاقل في أن التقريب بين القواعد الأصولية، والمباني التشريعة، يسهم في تأسيس منهج علمي مشترك لدراسة مختلف القضايا الفقهية والفكرية. كما ان الاستمرار في هذا النهج قد يؤدي إلى تأسيس منهج أصولي جديد يستوعب الخلافات المذهبية، ويعيد توضيح المسائل والمباني التي كان يظن أن الخلاف فيها جوهري وكبروي، والحال انه خلاف اصطلاحي وصغروي. كما لا يخفى ما في ضبط الأصول المختلف فيها، والمباني المتنازع حولها، من أثر على ولاة الأمر، في مجال صياغة القوانين، وتحقيق التعايش، إذ ينتفي بذلك الحرج في اتخاذ القرارات بسبب الخلاف الحاصل في الأصول العامة، والمباني الكبرى. واستمرارا على هذا النهج الذي نعتبره ناجعا، بل ضروريا، في تحقيق التقريب، وتمتين أرضيته، فإنني آثرت أن أعالج أصلا يعتبر من أهم الأصول المختلف فيها، وهو «المصلحة المرسلة» ، حيث سأكشف النقاب عن حقيقة الخلاف فيه، وأضبط وجوه الخلاف، لأحقق في دعوى النزاع حول هذا الأصل، ولأكشف عن كون هذا الأصل، الذي ظل في نظر الكثير شكلا من أشكال الخلاف الأصولي والفكري، قد يكون أصلا أساسيا في تحقيق التقريب، وتضيق هوة الخلاف. وتأكيدا لما أشرت إليه، من أهمية هذا النهج في التشريع والتقنين عند الولاة، فإنني سأقدم وجوها للعمل المصلحي عند الحاكم، والمرجع الديني. وبذلك فإن هذا البحث سينقسم إلى قسمين: القسم الأول يتولى الكلام على المصلحة، بتحرير محل النزاع، وعرض أدلة المثبتين لها، ومناقشة أدلة النافين لها، وشروط العمل بمقتضاها، مع تسليط بعض الضوء على الاجتهاد بالمصلحة عند ولي الأمر. وبما أن قاعدة التزاحم تعتبر من أهم التطبيقات العملية للمصلحة، فإنني أفردت لها القسم الثاني، حيث كان الكلام فيه على المفهوم، والحجية، وعلاقة التزاحم بالعقل، مع إيراد بعض التطبيقات المندرجة في باب الأهم والمهم. القسم الأول: المصلحة تحرير محل النزاع: تنقسم المصلحة بالإضافة إلى شهادة الشرع لها إلى ثلاثة أقسام: معتبرة، وملغاة، ومرسلة. وأما القسم الأول: وهي التي شهد لها الشرع بالاعتبار، فقد أجمع العلماء على بالاخذ بها، ومن أمثلها تحريم الشرع للسكر حفاظا على مصلحة العقل. وأما القسم الثاني: وهي المصلحة التي أبطلها الشرع، فهي مردودة عندهم بالاتفاق، ويمثل لها العلماء بفتوى الفقيه الأندلسي يحيى بن يحيى الليثي لبعض ملوك الأندلس لما جامع امرأته في نهار رمضان، بصوم شهرين متتابعين بغرض الزجر. فلو عسر عليه الصوم، فسيعتق رقبة من عبيده الكثر، وهذا عليه يسير، وهو مظنة معاودة المعصة، فتكون كفارة الصوم أليق بزجره. وهذه المصلحة باطلة، ومخالفة للنص الذي يجيز له عتق رقبة. وأما القسم الثالث: فهي المصلحة التي لم يشهد لها دليل شرعي بالاعتبار أو الإلغاء، وهي المصلحة المرسلة([2]). وقد اضطربت فيها آراء العلماء وأقوالهم، سواء من حيث التعبير عنها، أم من حيث قبولها والأخذ بها. فقد عبر عنها الغزالي بالاستصلاح([3])، والمصلحة المرسلة([4])، والمصلحة المناسبة([5])، وابن الحاجب بالمناسب المرسل([6])، ورادف إمام الحرمين الجويني([7]) وابن السمعاني بينها وبين الاستدلال([8])، وسماها جماعة من أهل الأصول بالاستدلال المرسل([9])، ونعتها ابن تيمية بالاستدلال بالمصالح([10]). وتنبه محمد تقي الحكيم إلى أن المرادفة بين المصلحة المرسلة والاستصلاح والاستدلال «لم يتضح له وجه، لبعده عما لهذه الألفاظ من مداليل لديهم. فالاستصلاح كما هو صريح كلامهم هو بناء الحكم على المصلحة المرسلة، لا أنه عينها، كما أن الاستدلال إنما يكون بها، لا أنها عين الاستدلال» ([11]). وقد وجه محمد سعيد رمضان البوطي ذلك الخلاف الاصطلاحي فقال: «وهذه التبعيرات وإن كانت تبدو مترادفة، لوحدة المقصود بها، إلا أن كلا منها ناظر لهذا المقصود من جهة معينة. ذلك أن كل حكم يقوم على أساس المصلحة يمكن أن ينظر إليه من ثلاثة جوانب، أحدها: جانب المصلحة المترتبة عليه، ثانيها: جانب الوصف المناسب الذي يستوجب ترتيب الحكم عليه تحقيق تلك المصلحة، ثالثها: بناء الحكم على الوصف المناسب أو المصلحة، أي المعنى المصدري. فمن نظر إلى جانب الاول عبر بالمصالح المرسلة، وهي التسمية الشائعة، ومن نظر إلى الجانب الثاني عبر بالمناسب المرسل، كابن الحاجب حينما جعل «الوصف المناسب» مقسما، وفرع منه المؤثر والملائم والغريب والمرسل، وكالغزالي في كتابه «شفاء الغليل» . ومن نظر إلى الجانب الثالث عبر بالاستصلاح أو الاستدلال. وقد عبر بالأول الغزالي في «»المستصفى»، وجعله عنوان البحث، وعبر بالثاني إمام الحرمين في كتابه «البرهان»..»([12]). فإذا اتضح مفهوم المصلحة المرسلة، ولاحت حقيقتها، فما موقف العلماء من الاحتجاج بها؟ موقف العلماء من المصلحة: اختلف علماء أهل السنة في الاحتجاج بالمصلحة المرسلة، فقد منعه الجمهور مطلقا بما فيهم مالك، لكن حكي عن مالك الجواز مطلقا. والذي ذهب إليه الشافعي ومعظم أتباع أبي حنيفة هو الجواز، بشرط ملاءمتها لأصل كلي أو جزئي من أصول الشرع. واشترط الغزالي والبيضاوي أ ن تكون ضرورية وقطعية وكلية([13]). وأنا لن أخوض في مناقشة أقوالهم، بل سأتكلم من حيث الجملة على أدلة المثبتين منهم، ثم أردفه بالكلام على أدلة النافين، وأبرزها أدلة ابن حزم، فهو أكثر تشددا من الإمامية في رد التعليل بالمصلحة كما سنرى. وبذلك يتم تنضيد هذا المبحث برسم مطلبين: أدلة المثبتين: وهي أدلة كثيرة، وأنا ذاكرها على جهة الإيجاز والاقتضاب، إذ هي مبسوطة في مظانها بما فيه شفاء العليل وإرواء الظمآن([14]). والمعول عليه في هذه الأدلة كتاب أن سنة أو عقل: أـ من القرآن الكرم: ــ «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» ([15])، ففي الآية تعليل صريح للبعثة النبوية، وهو أنها جاءت لرحمة الدنيا والآخرة. ــ «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط»، فالأية تنص على أن المقصد العام من بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام هو أن يقوم الناس بالقسط في كل شيء. وجاء في نفس الآية قوله تعالى: ــ «وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس» ([16])، ففي الآية نص على أن من مقاصد الله تعالى في خلقه أن يجلب لهم منافعهم الدنيوية، ومن أعظمها منافع الحديد. ــ «هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين» ([17])، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث لمقصد عام، وهو تزكية الناس وتعليهم([18]). ب ــ من السنة النبوية: ـ «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، فإن أَدكم لايدري أين باتت يده» ([19]). فقد علل النبي (صلى الله عليه وسلم) غسل اليدين ثلاثا؛ عند القيام من النوم بقوله: «فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده». ــ «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه، فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه»([20]). فقد نبه (صلى الله عليه وسلم) على أنهما استحقا نفس العقوبة لعلة استوائهما في القصد الإجرامي، وإرادة القتل، وبذل جهدهما، لتنفيذ جريمة القتل. ــ «كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، ليتسع ذوو الطول على من لا طول له، فكلوا ما بدا لكم، وأطعموا، وادخروا»([21])، فعلة نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن ادخار الأضاحي فوق ثلاثة أيام هو قوله (صلى الله عليه وسلم): «ليتسع ذوو الطول على من لا طول له«، فيدور الحكم مع علته وجودا وعدما. ج ـ من المعقول: أمر الله تعالى العباد ونهاهم إما عبثا وإما لحكمة، فمن قال بالأول نسب العبث إليه سبحانه، وأهمل وعطل الأَحكام، فثبت الثاني([22]). وهذا الدليل العقلي من المتانة وصلابة الأساس بحيث لم يمار فيه إلا من شذ، ولذا كان أهم دليل نصبه ابن حزم غرضا للنقد والنقض كما سنرى بعد حين. يقول ابن قيم الجوزية: «ثم ما في المفعولات من التخصيصات المتنوعة دال على إرادة الفاعل، وأن فعله ليس بالطبع، بحيث يكون واحدا غير متكرر. وما فيها من المصالح والحكم والغايات المحمودة دال على حكمته تعالى» ([23])، إذ «أفعاله كلها خير وحكمة ومصلحة»([24])، «ولهذا المعنى اعتن الإمام الغزالي في كتب السلوك بتعريف أسرار العبادات» ([25])، وكشف عن الحكم والمصالح التي تفيض بها. وكذلك الشيعة – وهم ممن لا يقول بالاستصلاح([26]) – لا يمارون في هذه الحقيقة، ففي تقريرها روى ابن بابويه القمي خبرا بسنده عن الفضل بن شاذان النيسابوري: «إن سأل سائل فقال: أخبرني هل يجوز أن يكلف الحكيم عبده فعلا من الافاعيل لغير علة ولا معنى؟ قيل له: لا يجوز ذلك، لأنه حكيم غير عابث ولا جاهل» ([27]). ولذا جزم محمد عبده أن »من القواعد الصحيحة المسلمة عند جميع العقلاء: «إن أفعال العاقل تصان عن البعث»، ولا يريدون من العاقل إلا العالم بما يصدر عنه بإرادته، ويريدون من صونها عن العبث أنها لا تصدر إلا لأمر يترتب عليها يكون غاية لها. وإن كان هذا في العاقل الحادث؛ فما ظنك بمصدر كل عقلي ومنتهى الكمال في العلم والحكم؟! هذه كلها مسلمات لا ينازع فيها أحد» ([28]). نتيجة أدلة المثبتين: بناء على قوة أدلة المثبتين للاستصلاح، فقد اعتبروا تعليل الشريعة بجلب المصلحة ودرء المفسدة دليلا مجمعا عليه([29])، واعتبرها أبو إسحاق الشاطبي قاعدة قطعية من قواعد مقاصد الشريعة لثبوتها بالاستقراء([30])، وقرر الدهلوي أن كل العلوم دون أصول فن علم المقاصد([31])، أي أن التعليل بالمصالح هو ملاك كل كبيرة وصغيرة في الشريعة. تعليلات مصلحية عند أهل السنة: من تطبيقاتهم المصلحية إيجابه تعالى لنصب الإمام على الخلق، فقد اقتضت «حكمته أن يجعل أفضلهم([32]) واسطة بينه وبينهم، ويلقي إليه ما ينتظم به أمر معاشهم ومعادهم، ويقدر على إبلاغهم، حتى يقوم بتبليغ ما يلقى إليه، ويقدر تلك القدرة، وذلك الإلهام، على إيضاح السبيل الداعية إلى الحق» ([33])، يقول ابن أبي الربيع: «وإنما اضطر العالم إلى سائس ومدبر، ليدفع عنهم الأذى الواقع على بعضهم من بعض ].....[ حتى يقصد كل أحد منهم للصناعة التي ينتحلها لمصلحة نفسه، ومصلحة غيره ممن يحتاج إليها، ولا يعوقه عنها عائق، فيتم بذلك تعاضدهم، وتعاونهم على مصالح عيشهم، واستقامة أمورهم» ([34]). ومما عللوا به ما غرسه الله في الإنسان من غريزة حب الطعام والشراب والنساء أن «به يصلح حال بني آدم، ولولا ذلك لما استقامت نفس الأنساب، ولا وجدت الذرية» ([35]). ويفيدنا ابن تيمية أن «مقصود الجهاد تحصيل ما أحبه الله، ودفع ما أبغضه الله» ([36]). ومن تعليلات حرمة الخنزير والميتة والدم ما يحلقونه من ضرر في البدن، بل والعقل أيضا؛ فقد جاء في «النوازل الصغرى» مايلي: «قال الزياتي في شرح الذكاة: قد تقدم أن الخنزير والميتة والدم حرام، ووجه ذلك بعضهم فقال: أما الميتة فلما لحقها من الفساد في أخلاطها المركبة في الدم ولحمها، ولذا يسرع لها التغير، بخلاف المذبوحة، فإذا اغتذى الإنسان بها لم يكن منها غذاء محمود، فتعود على الأجسام بالضرر والأمراض الردية إن سلمت من التلف. وأما الدم فلقربه من التغيير وإسراع الفساد لا يكون منه غذاء صحيحا، ولذلك عد بعض الأطباء القدماء دم بعض الحيوان المأكول اللحم من السموم. وأما الخنزير فإنه إذا أكل عاد على العقول بالنقصان، لأنه يبلد الذهن، ويغلظ الطبع، ويقسي القلب، ويكسف نور العقل. هذا وإن كان يخصب الجسم ويعظمه، فهذه خصلة مذمومة عند العرب، قال حسان (رضي الله عنه): لابأس بالقوم من طول ومن عظم جسم البغال وأحلام العصافير ثم فيه خصلة أخرى عظيمة الموقع، وهي سقوط الغيرة التي هي معتبرة في الدين، وهي شعبة من شعب الإيمان، ولذلك تجد الغيرة في النصارى مفقودة (هـ). قال سيدي يوسف: اختلف هل تحرميه تعبد أو معلل بقساوة القلب وذهاب الغيرة»([37]). أدلة النافين ومناقشتهم: أولا: الظاهرية: ممن شدد النكير على من احتج بالتعليل بالمصالح، وأطال النفس في التدليل على بطلانه، الظاهرية عامة، وابن حزم خاصة([38])، فقد عقد في الباب التاسع والثلاثين من كتاب «الإحكام» فصلا و سمه بـ «الحكيم إلا لعلة»، استفاض فيه بنقض القول بالعلل والمصالح، وقد ركّز على أهم دليل معقول لدى المثبتين، وهو أنه تعالى ما أمر عباده ونهاهم إلا لحكمة؛ حيث اعتبره دليلا فاسدا، وحجة داحضة، وأصلا لقول الدهرية. وقرر فيما قرره أن هذا الدليل يثبت قياس الله تعالى على الناس، بجامع أنهما لا يفعلان فعلا إلا لِـحكمة، وهو باطل([39]). لكن عند النظر في حجج ابن حزم والتحقيق في اعتراضاته؛ نجدها في منأى عن دائرة النقاش، وأجنبية عن حيز محل النزاع، إذ يلوح من كلامه أنه يجعل المصالح – سواء كانت ملغاة أم مرسلة – في ميزان واحد، ويصدر فيها حكما متحدا، وموضع الخلاف هو المصالح المرسلة، أما الملغاة فلا يجادل أحد في ردها. هذا وإنه قد اضطرب في شأنه المصلحة، ففي كتابه «طوق الحمامة » يذكر أن بسبب الأهواء وطغيان الشهوات «حسن الأمر والنهي » ([40])، ولا معنى للحسن إلا المصلحة، فهما متلازمان، ولا يمكن تصور أحدهما دون الآخر، فالحسن ما لابس المصلحة، والقبيح ما لابس المفسدة. وهذا لا يماري فيه عاقل، ولذا جعل ابن تيمية النافع والصالح والحسن «أسماء متكافئة، مسماها واحد بالذات، وإن تنوعت صفاته »([41])، واشترطت الإمامية في التكليف شروطا تؤذن بالتكافئ الاسمي المذكور؛ منها: «انتفاء المفسدة فيه لأنه قبيح» ([42])، وكلامهم في الحسن والقبح يشعر بذلك؛ يقول محمد سند: «إن القبيح والممنوع هو في الموضوعات والأفعال الضارة، والتي ]تضاد[([43]) المصلحة والكمال والجميل والحسن» ([44]). وتقريب التلازم المذكور بما قاله أبو الحسين البصري: «وأيضا فإني أجوز في القبيح أن يسقط الفرض إذا كان سادا لمسد الواجب في وجه المصلحة، وإنما قبح ولم يدخل تحت التكليف، لأن فيه وجها من وجوه القبح، أو لأنه إذا فعله المكلف؛ صار لو فعل ذلك الواجب لم يكن على صفة المصلحة، فيسقط وجوبه لهذا » ([45])، وبتقريب أكثر وضوحا يقول محمد عبده: «فالناس متفقون على أن من الأعمال ماهو نافع، ومنها ما هو ضار، وبعبارة أخرى: منها ماهو حسن، ومنها ما هو قبيح([46])، فالحسن والتحسين ما هما إلا مرادفان للمصلحة وجلبها؛ كما أن القبح والتقبيح ماهما إلا مرادفان للمفسدة وجلبها». كما يظهر تناقض ابن حزم واضطر به حين خالف موقفه الرافض للتعليل المصلحي في كتابه «الناسخ والمنسوخ» ، إذ قرر أن نسخ الأحكام تقتضيه مصلحة العباد([47])، وعبارته: «... ومنها([48]) أن يكون الناسخ متراخيا عن المنسوخ، وبيان النسخ منتهى الحكم، لتبدل المصلحة على اختلاف الأزمنة، كالطبيب ينهى عن الشيء في الصيف، ثم يأمر بــــه في الشتاء ([49]). ولاينكر أن «كل أفعاله تعالى عدل وحكمة» ([50])، ولا معنى للحكمة إلا إذا تضمنت جلبا لمصلحة مادية أو معنوية، أو درءا لمفسدة مادية او معنوية. ثانيا: الشيعة الإمامية: لا جرم أن «من أقوى شعارات الإمامية التي رفعت في عالم الدرس الفقهي، هو عدم الإيمان بحجية اجتهاد الرأي، وعدم جواز العمل به، وكذا ما تفرع عنه من مبادئ، كالقياس، والاستحسان، والاستصلاح» ([51]). وإذا كانت المصلحة المرسلة هي التي لم يشهد لها شاهد شرعي بالاعتبار ولا بالإلغاء، فإن الشيعة الإمامية ترفض هذا التعريف رفضا باتا، ويعبر محمد تقي الحكيم عن هذا الموقف بقولـه: «وهو بهذا المفهوم لا تعترف الشيعة بجواز الأخذ به، فضلا عن تقديمه على الأدلة الأولية، لإجماعها على حرمة التشريع، وهو كما يقولون: إدخال ماليس من الشرع في الشرع، والكلام المناسب بهذا التعريف من أظهر مظاهر التشريع» ([52]). ونفس الموقف يعبر عنه علم آخر من أعلام الشيعة المعاصرين؛ وهو عبد الحسين شرف الدين الموسوي الحسيني الذي يحكي إجماع الإمامية على رفضها للمصالح التي لا يشهد نص شرعي لها بالاعتبار، وعبارته: «نحن الإمامية، إجماعا، قولا واحدا، لا نعتبر المصلحة المرسلة في تخصيص عام، ولا في تقييد مطلق، إلا إذا كان لها في الشريعة نص خاص يشهد لها بالاعتبار. فإذا لم يكن لها في الشريعة أصل شاهد باعتبارها إيجابا أو سلبا، كانت عندنا مما لا أثر له، فوجود المصلحة المرسلة وعدمها عندنا علىحد سواء» ([53]). ومن هنا يتضح أن المصلحة عند الإمامية لا تصلح أن تكون سندا لتشريع الأحكام، فالأحكام الشرعية عندهم؛ وإن «كانت ألطافا من الله سبحانه؛ تحقق لهم المصالح، إلا أن تلك المصالح ليست مطردة تظهر للعقول لا تنفك ولا تخفى في حال من الحالات. كما أنها ليست من نوع الأسباب التوليدية التي تترتب عليها المسببات قهرا، وبلا حاجة إلى الجعل الشرعي، والأحكام إنما تكون شرعية بالجعل الشرعي الصادر من المشرع. أما الحكم الذي يراه المجتهد مناسبا للمصلحة باجتهاده، فهو مظنة الوقوع في الزلل والخطاء، حيث تخفى على العقول وجوه الضرروالفساد، والخير والصلاح، مهما كان الإنسان غير معصوم، علاوة على أن الله سبحانه قد أحاط علما بكل المصالح والمفاسد، فكشف للعباد مقصود الشرع في بعضها من حيث جلب المصالح ودرء المفاسد، وسكت عن بعضها رحمة بالعباد ولطفا بهم، ونهاهم عن التكلف في تقصيها كما جاء في الحديث النبوي: «إن الله أمركم بأشياء، ونهاكم عن أشياء، وسكت عن أشياء رحمة بكم فلا تتكلفوها» ([54]). لكن في مقابل هذا الرد المتشدد للمصلحة، نلفي لديهم تصريحات تنبئ عن القول بتعليل الشريعة بها. وقبل بيان ذلك؛ ينحتم تحصيل جوابهم عن الإشكال الكلامي التالي: هل أفعال الله معللة بالأغراض؟ ذهبت الأشاعرة إلى أنه تعالى لا يفعل لغرض، لاستلزام ذلك أن يكون ناقصا مستكملا بذلك الغرض، والذي عليه المعتزلة والإمامية أن أفعاله تعالى معللة بالأغراض، وإلا كان عابثا، والله منزه عن العبث، والعبث قبيح، والله لا يفعل القبيح، لأنه حكيم. أما عن حجة الأشاعرة في أن الغرض يستلزم النقص والاستكمال به، فردوا عليه بأن هذا يكون صحيحا لو كان الغرض عائدا إليه تعالى، والحال أنه عائد إل منفعة العبد أ ولاقتضاء نظام الوجود، هذا من حيث الدليل العقلي، أما الأدلة النقلية، فمنها قوله تعالى: «أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون» ([55])، وقوله: «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» ([56])، وقوله: «وما خلقنا السماء والأرض وما بنيهما بالاط، ذلك ظن الذين كفروا» ([57])، وقوله: «وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين» ([58])، إلخ([59]). فقولهم بتعليل أفعال الله بالأغراض قائم على مبدأ أن الله حكيم، ومن الحكمة توخي الغرض والمصلحة، إذ إن من الحكمة التعليل بجلب المصالح ودرء المفاسد([60])، والمصالح والمفاسد كامنة في متعلقات الأحكام([61]). ولذا نلفي المحدث الأخباري الإمامي محمد بن محسن الحر العاملي عقد في كتابه «الفصول المهمة في أصول الأئمة » بابا وسمه بـ: «باب أن أفعال الله سبحانه معللة بالأغراض الراجعة إلى مصلحة العباد، وأنه لابد من التكليف لهم بما فيه صلاحهم» ([62])، وآخر وسمه بـ : «ما أحله الله ففيه صلاح العباد، وكل ما حرمه ففيه الفساد» ([63]). واعتبر أحمد بن زين الدين الأحسائي أن الحكمة» هي مقتضى إرادة المولى سبحانه وفعله» ([64])، يقول: «وإنما نريد أن كل خير فهو من فضل الله وفعله على جهة الابتداء والتفضل، إلا أنه يضع الأشياء على مقتضى الحكمة، لا على الإهمال والعبث، كما يزعمه الزاعم» ([65])، كما «ثبت في اللطف ([66]) والحكمة أنه يضع الأشياء المستحقات مواضعها على قدر الاستحقاق، كما هو شأن المدبر الحكيم الخبير العليم» ([67]). وقرر الخميني أن إنكار المصالح والمقاسد قول بالإرادة الجزافية([68]). وقرروا أن دين الإسلام جاء «لسعادة الإنسان، لا لشقائه، ولنعمته ، لا لبلائه» ([69])، وأن هذا هو الذي جعله «يتمشى مع الزمان في كل أطواره، ويدور مع الدهر في جميع أدواره، ويسد حاجات البشر في نظم معاشهم ومعادهم،»([70])، وأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) «اهتم بدعوة الناس إلى ما يسعدهم في دينهم ودنياهم» ([71])؛ يقول مرتضى مطهري: «فلا نشك أن الإسلام يريد تحقيق كل أمر يراه صالحا، والحيلولة دون تحقيق كل أمر ليس فيه صلاح([72])، ويؤكد أن الفقهاء يقررون أن الشريعة بأحكامها ومقرراتها تكمن تحت نقابها سلسلة من المصالح، وهذه المصالح تعد بمنزلة العدل والروح للشريعة، والوسيلة الوحيدة لنيل هذه المصالح إنما هي العمل بالشريعة([73])، وأن الإسلام يثبت بيانا كليا مفاده أن الطيبات حلال، لأنها طيبة وذات مصلحة، والخبائث حرام، لأنها لا تلائم الإنسان، وذات مفسدة([74]). وربط محمد باقر مجلسي تيسير الأمور وعدم تيسيرها – عند التوسل والاستخارة – بالمصالح والمفاسد([75]). وجزم محمد باقر الصدر أن الله تعالى لما كان « عالما بجميع المصالح والمفاسد التي ترتبط بحياة الإنسان في مختلف مجالاته الحياتية، فمن اللطف اللائق برحمته أن يشرع للإنسان التشريع الأفضل، وفقا لتلك المصالح والمفاسد، في شتى جوانب الحياة، وقد أكدت ذلك نصوص كثيرة وردت عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وخلاصتها أن الواقعة لا تخلو من حكم» ([76])، وأكد «أن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد والملاكات التي يقدرها المولى وفق حكمته ورعايته لعباده، وليست جزافا أو تشهيا» ([77]). ويفيدنا محمد تقي الفقيه أنه «بعد البناء على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد، يكون في متعلق الحكم مصلحة أو مفسدة، تقتضي طلبه أو الزجر عنه»([78]). وقرر محمد الحسين آل كاشف الغطاء أن الأنبياء « أمروا بكل مافيه راحة الإنسان وسعادته في معاشه ومعاده» ([79]). وفي تقريب ذلك يقول محمد جواد مغنية: «أن الغاية القصوى من كل ما يأمر به الشارع أو ينهى عنه هي الحياة الراضية المرضية عند الله سبحانه والصالحين من عباده، أبدا لايدع الإسلام شيئا فيه خير وصلاح للناس بأية جهة من الجهات إلا أمر به، أو فيه شر وفساد إلا نهى عنه» ([80])، ويجزم بتوجه «المبادئ التشريعية في الإسلام دائما إلى مصلحة الإنسان، ودفع المضرة عنه، فلا توجب عليه شيئا أو تحرمه إلا لأن التجربة تدل على أن ما أوجبته الشريعة الإسلامية يعود على فاعله بالحياة الطيبة، وأن ما حرمته يعود عليه بالضرر والشقاء» ([81]). يقول هاشم معروف الحسني: «إن التكليف الشرعي تابع للمصلحة في الفعل المكلف به، ولولاها لما أوجبه الشارع. فمن الإيجاب الشرعي تستكشف وجود المصلحة في الفعل، وإذا كان وجود الأفعال لأجل المصالح القائمة بها، فكما يجوز أن تكون المصلحة مستمرة لا تتفاوت بحسب الأزمنة، كذلك يمكن أن تكون المصلحة في وقت دون آخر» ([82]). ومعنى هذا الكلام أن لكل حكم من الأحكام التكليفية مبادئ تتفق مع طبيعته، فمبادئ الوجوب هي الإرادة الشديدة، وهي قائمة على المصلحة القوية التي تنأى عن الترخيص، ومبادئ الحرمة هي المبغوضية الشديدة، وهي مبنية على المفسدة الشديدة، والاستحباب قائم على المصلحة، لكنها أضعف من مصلحة الواجب، والكراهة قائمة على المفسدة، لكنها أيضا أضعف من مفسدة الحرام، أما الإباحة، فقد نشأت عن خلو الفعل المباح من أي مصلحة تدع وإلى الإلزام فعلا أو تركا([83])، وبكلمة: إن الحكم؛ سواء كان واقعيا أم ظاهريا([84])؛ تمكث خلفه جملة من المصالح، ولم يفرضوا البتة وقوع التعارض بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري؛ لأن «الحكم الظاهري إذا خالف الحكم الواقعي، فحيث إن الحكم الواقعي بمبادئه محفوظ في هذا الفرض بحكم قاعدة الاشتراك، يلزم من جعل الحكم الظاهري في هذه الحالة نقض المولى لغرضه الواقعي بالسماح للمكلف بتفويته، اعتمادا على الحكم الظاهري في حالات عدم تطابقه مع الواقع، وهو يعني إلقاء المكلف في المفسدة، وتفويت المصالح الواقعية المهمة عليه» ([85]). شروط الإمامية في الأخذ بالمصلحة: اشترط الشيعة الإمامية للعمل بالمصلحة المرسلة أن تكون حافظة لمقصود شرعي، وغير متنافية مع نصوص الكتاب والسنة، إذ لا بأس عندهم بالعمل بها بهذا اللحاظ، لأنها لا شكل حينئذ خطرا على الدين([86])، فبعد أن ساق محمد تقي الحكيم تعريفا للاستصلاح ذكره الدواليبي؛ وهو: «الاستصلاح في حقيقته نوع من الحكم بالرأي المبني على المصلحة، وذلك في كل مسألة لم يرد في الشريعة نص عليها، ولم يكن لها في الشريعة أمثال تقاس عليها، وإنما يبنى الحكم فيها على مافي الشريعة من قواعد عامة برهنت على أن كل مسألة خرجت على المصلحة ليست من الشريعة في شيء ]....[ وتلك القواعد العامة مثل قولـه تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان» ([87])، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضررا» ([88])([89])، علق عليه بقوله: «وهذا الشرح إذا أضفنا إليه كلمة «خاص» بعد كلمة «نص» لتحقيق الملائمة بين فقراته، ورفع التناقض من بينها، وقلنا إن مرادهم([90]). بالمصالح المرسلة أو الاستصلاح هو هذا، فليس لدى الشيعة مايردع عن الأخذ به، مادام مستندا إلى القواعد العامة الواردة عن الشارع» ([91]). إلا أن الإمامية تستحسن أن لا يسمى هذا النوع من المصالح بالمصالح المرسلة أو الاستصلاح، بل تعتبره من قبيل العمل بالنصوص الشرعية، كما هو منطوق عبارة محمد تقي الحكيم: «والرجوع إلى القواعد الشرعية وتطبيقها على مصاديقها ليس من العمل بالمصالح المرسلة، ولا من التشريع في شيء، وإنما هو من العمل بالكتاب والسنة» ([92]). ولمزيد من البيان نسوق ما قاله هاشم معروف الحسني: «ومجمل القول: إن المصالح التي توافق أغراض الشارع ومقاصد الشريعة، ونصوص الكتاب والسنة، لابد من ملاحظتها في مقام التشريع. ولا يهمل الفقيه الشيعي هذا النوع من المصالح، بل راعاها في تطبيق بعض الأحكام على الجزئيات المختلفة، وتعيين المراد من ظواهر النصوص القرآنية والنبوية، وفي موارد القصاص والتأديب، والأخذ بالأيسر ، وأقل الضررين، وغير ذلك، كما يظهر للمتتبع لآراء الفقهاء وفتاويهم، وقد دلت النصوص الشرعية على مراعاتها في كثير من الموارد، أما اعتبارها دليلا مستقلا كالكتاب والسنة في غير مورد النصوص؛ كما يدعي الأحناف والمالكية والحنابلة؛ فهو جرأة على التشريع، وعمل بالرأي ، ومتابعة للهوى» ([93]). ومن مصاديق المصلحة المندرجة في القواعد العامة مصلحة حفظ العرض، فقد ذكر عبد الأعلى الموسوي السبزواري ضرر هتك العرض، ثم علق عليه بقوله: «وهو إضرار، وأي إضرار أشد منه؟!» ([94])، إذ جعل هذا من صغريات «قاعدة الضرر» ([95]). ومن هذا القبيل أيضا مصلحة حفظ النفس ودرء مفسدة الإضرار بها، وعبارته: «يحرم الإضرار على النفس وعلى الغير في الإسلام» ([96]). وكذلك مصلحة حفظ المال([97])، ودرء مفسدة الإضرار بالعقل بتحريم المسكرات([98]). أما مصلحة الدين بدرء مفسدة الكفر والاعتقادات الباطلة، فلا تحتاج إلى تدليل منهم عليها. وهذه الشروط لاينازع فيها أهل السنة، وكيف يخالفون فيها وهي من البديهيات والمسلمات؟! فالمعهود لدى الشافعي رده للاستصلاح، وكذلك حكي هذا عن مالك. لكن الشاطبي يفيدنا أنهما أخذا بالاستدلال المرسل، واعتمداه إذا شهد للفرع أصل كلي([99]). وكذلك الأمر لدى الغزالي، فقد أنكر أن يكون الاستصلاح «أصلا خامسا برأسه، بل من استصلح فقد شرع» ([100])، يقول في بيان ذلك: قلنا: هذا([101]) من الأصول الموهومة، إذ من ظن أنه أصل خامس فقد أخطأ، لأنا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع. فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم الكتاب والسنة والإجماع، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع، فهي باطلة مطروحة، ومن صار إليها فقد شرع، كما أن من استحسن فقد شرع. وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصودا بالكتاب والسنة والإجماع، فليس خارجا من هذه الأصول، لكنه لايسمى قياسا، بل مصلحة مرسلة، إذ القياس أصل معين. وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا بدليل واحد، بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات، تسمى لذلك مصلحة مرسلة. ولذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع، فلا وجه للخلاف في اتباعها، بل يجب القطع بكونها حجــــة» ([102])، لكنه اشترط لاعتبارها ثلاثة أوصاف: أن تكون ضرورية، وقطعية، وكلية([103]). أما ما ذكره هاشم معروف الحسني – فيما نقلناه عنه – من كون الأحناف والمالكية والحنابلة يأخذون بالمصلحة المرسلة كدليل قائم برأسه: فلا أساس لـه من الصحة. فقد اشترط أتباع أبي حنيفة للأخذ بها أن تكون ملائمة لأصل كلي أو جزئي من أصول الشرع([104])، وأن تكون ضرورية قطعية كلية([105]) وإلا لم يعتبروها؛ يقول سيف الدين الآمدي: «وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك به([106])، وهو الحق، إلا ما نقل عن مالك أنه يقول به، مع إنكار أصحابه لذلك عنه» ([107]). وعلى احتمال أن يكون مالك قال بها؛ فقد قرر الآمدي أن «الأشبه أنه لم يقل بذلك في كل مصلحة، بل فيما كان من المصالح الضرورية الكلية الحاصلة قطعا، لا فيما كان من المصالح غير ضروري، ولا كلي، ولا وقوعه قطعي» ([108])، وعبارة أوضح: أ ـ أن تكون ملائمة لمقاصد الشرع الضرورية لقيام مصالح العباد وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال؛ ب ـ أن تكون معقولة في ذاتها بحيث إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول؛ ج ـ أن يكون في الأخذ بها حفظ أمر ضروري، أو دفع ضرر، أو رفع حرج ومشقة([109]). فتكون الأوصاف التي اشترطها المالكية هي نفسها التي اعتبرها الغزالي الشافعي، وأتباع أبي حنيفة، والشيعة الإمامية. وما ادعاه هاشم معروف الحسني بشأن المصلحة لدى الحنابلة لا وجه له أيضا، ووجه هذه الدعوى مخدوش بما قرره بان اللحام الحنبلي، وهو أنه لا يصح التمسك بها من غير أصل([110]). والغريب في الأمر أن الإمامية يَسِمون الحنابلة بشدة التمسك بالحديث، ويلمزونهم بالجمود علىظواهر الكتاب والسنة، وينسبون إليهم رفض القياس والطعن فيه وفي المفتين به([111])، فكيف لمن هذا حاله أن يقول بالمصلحة المرسلة باعتبارها قائما بذاته؟! هذا والرجوع إلى كتب الحنابلة لاستقصاء أصول مذهبهم، فحتما لن نجد بينها ما يشير إلىما نسب إليهم. فبالرجوع مثلا إلى كتاب «إيقاظ همم أولي الأبصار» للشيخ صالح الفولاني الحنبلي، فسنلفي فتاوي الإمام أحمد مبنية على خمسة أصول، وهي: 1ـ النصوص من الكتاب والنسة؛ 2ـ ما أفتى به الصحابة؛ 3ـ أقرب أقوال الصحابة إلى الكتاب والسنة عند اختلافهم، وإلا توقف؛ 4ـ الأخذ بالحديث المرسل، والحديث الضعيف([112])؛ 5 ـ القياس عند الضرورة([113]). ثم عليها الفولاني بقوله: «فهذه الأصول الخمسة من أصول فتاويه، وعليها مدارها» ([114]). ومن الأمثلة على المصالح الملائمة لمقاصد الشريعة والموافقة للنصوص الشرعية، مما فيه تحقيق للمصالح العامة ورعاية لمصلحة الفرد والجماعة: إدارة شؤون الدولة المتروك أمرها إلى الإمام أونائبه، وتوزيع المناصب والأموال وحفظ الثغور والعقوبات التي سكت الشارع عن تحديدها، وترجيح الأهم على المهم، والأخذ بأقل الضررين، وغيرها من القواعد الكلية المستوحاة من المصلحة التي تيسر للعباد أمر معاشهم وشؤونهم، وتعين الحاكم الشرعي على تحقيق مقاصد الشرع وضبط المعاملات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وفقها. نماذج من التعليلات المصلحية عن الإمامية: أ ـ مسائل فقهية من المسائل الفقهية التي خضعت للتعليل المصلحي عند الإمامية؛ مسألة الزواج في الإسلام، فقد أفاد محمد الحسين آل كاشف الغطاء أن من «أهم مقاصده الإتفاق والألفة»([115]). ومنها بناؤهم التصرف في مال الولد على قاعدة جلب المصلحة ودرء المفسدة، فقد سئل أبو القاسم الخوئي: «هل يجوز للوالدين التصرف في مال ولدهما غير البالغ بما لا يعود له بالمصلحة؟ أم يجب عليهما حفظه له وتسليمه له بعد البلوغ؟» فأجاب: «لايجوز لهما التصرف إذا كانت فيه مفسدة، ويجب عليهما حفظه، إذ التصرف بما تعود مصلحته إليه أو لم تكن فيه مفسدة، والله العالم» ([116]). ومن المسائل الفقهية المعاصرة؛ تعليلهم لجواز زرع الأعضاء للحي بعد بترها من الميت بمصلحة حفظ النفس، فقد سئل الخوئي: «هل يجوز أخذ عضو من الميت لزرعه للحي في مورد توقف حياته على ذلك مطلقا؟» فكان جوابه: «إن اقتضت ضرورة الحياة جاز، ولزم دفع ما يحق لفصل ذلك الجزء من ديته على من باشر الفصل» ([117]). ب ـ تعليل فضائل الأعمال: من أمثلة ذلك صلاة الاستخارة، فقد قرر محمد باقر المجلسي أن من حِكَمها طلب العبد صلاحه من ربه، وتوكيل مصلحته إلى لطفه تعالى([118]). وذكر رواية للكليني عن الإمام الصادق أنه قال: «لا تتفاءل بالقرآن» ([119])، ومن الحكم التي علق بها هذا النهي درء مفسدة ضعف اعتقاد الناس بالقرآن إذا لم يوافق تفاؤلهم، علاوة على حكم أخرى تلوح هذه القبيسة ببعضها: «وقد أول مشايخنا (رحمة الله عليهم) هذا الحديث أن المراد في النهي عن التفاؤل بالقرآن هو استنباط الأحوال المستقبلية في الآيات المناسبة، كما قد اتخذ بعض الجهال هذا وسيلة رزقهم للاحتيال على الناس بهذا الشكل. ويخطر ببالي القاصر أنه يمكن أن يكون المراد من النهي عن التفاؤل والتطير الذي يحصل عند أكثر الناس في رؤية بعض الأمور أو سماعها، فيجعلون بعضها مباركا عليهم، وبعضها شؤما كصوت الغراب والبوم، ورؤية بعض الحيوانات، وغير ذلك، في بداية السفر وغيره من الأحوال، أي إنهم يأخذون الفأل الحسن أو السيء من سماع بعض الآيات الكريمة، وربما كان الحكمة فيه (لهذا النهي) أن لا يؤدي ذلك إلى قلة اعتقاد الناس بالقرآن فيما لو لم يوافق تفاؤلهم الواقع» ([120]). ج – مسائل في المعاملات اليساسية والاجتماعية والاقتصادية: ومن ذلك تعليل محمد باقر مجلسي أمره (صلى الله عليه وسلم) بالمشاورة «لأجل تعليم سائر العباد، وتطييب خاطر المؤمنين، ولمصالح أخرى كثيرة» ([121]). ويجعل الأحسائي من مقاصد العصمة «عمارة مدينة الكون والنظام، لأنها هي العدالة المطلقة الإمكانية، المستلزمة لحفظ النسبة الإيجابية الإلهية بين جميع الموجودات([122])، ويعتبر من مقتضيات أعمال وأحوال وأقوال وأفعال المعصومين «حفظ النظام، وعمارة المدينة بحفظ النسب القومية الإلهية بين الأشياء كلها التي بها يرتفع الفساد من سائر البلاد»([123])، وأيضا «حفظ نظام المعاش والمعاد عما يوجب اختلالهما، بحسب الأمور العقلية والشرعية، في التمام والكمال» ([124]). ومن المسائل الاقتصادية ما ذكره محمد باقر الصدر من وجوب إشراف الحاكم الشرعي على مجمل حركة الإنتاج في المجتمع، وإعطاء التوجيهات اللازمة، دفعا لمفسدة «مشاكل الفوضى في الإنتاج، ووضع سياسة اقتصادية، لتنمية الدخل الكلي للمجتمع» ([125]). علاقة المصلحة بالعقل: لم يكتف الشيعة الإمامية بالقول بتبعية الأحكام للمصلحة والمفسدة، بل قالوا أيضا بإدراك العقل لهما([126])، لكنهم لم يأخذوا بالمصلحة كدليل مستقل برأسه، وإنما طبقوا وفرعوا كثيرا من الأحكام في مختلف المسائل الفقهية على أساس كونها راجعة إلى أصل شرعي، أو معبرة عن مقصود شرعي. واعتبروها أيضا من الأمور التي يقرها العقل، فما وافق العقل من المصالح عملوا به، وما خالفه تركوه، وأرجعوا «المصالح المرسلة إلى صغريات حجية العقل، وأنها ليست من الأصول القائمة بذاتها» ([127])، وفي بيان ذلك يقول محمد تقي الحكيم بعد مناقشة مستفيضة حول المصلحة المرسلة وعدم حجيتها مالم تكن قطعية: «وبهذا يتضح أن الشيعة لا يقولون بالمصالح المرسلة، إلا ما رجع منها إلى العقل على سبيل الجزم» ([128]). ومما يدركه العقل إدراكا كاملا للمصلحة بجميع متعلقاتها؛ حفظ الضروريات الخمس؛ إذ يقول المحقق القمي: «والمصالح إما معتبرة في الشرع وبالحكم القطعي من العقل من جهة إدراك مصلحة خالية من المفسدة؛ كحفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسل.. » ([129])، ومن ذلك أيضا العمل بالراجح، وبأخف الضررين وأقل المفسدتين، إلخ عند التزاحم. فالمصلحة عند الإمامية؛ إما تكون مستفادة من النصوص والقواعد العامة، وهذا يتقضي إلحاقها بالسنة، مادامت داخلة تحت مفاهيمها العامة([130])، وإما تدرك بالعقل إذا كانت ذاتية، وكان الإدراك كاملا، وهذا بناء على أخذهم بنظرية التحسين والتقبيح العقليين([131]). أما عند الجمهور من أهل السنة؛ فالمصلحة عندهم إضافية، ومدركها الشرع لا العقل، وذلك بناء على نظريتهم في التحسين والتقبيح الشرعيين([132]). ومن الادلة التي استند إليها الجمهور، أن حكم الشرع ومصالحه لو كانت تدرك بالعقل «لجاز إفطار المقيم الذي يتعانى كتعاني المسافر، لمكان الحرج المبني عليه الرخص، ولم يجز إفطار المسافر المترفه، وكذلك سائر الحدود التي حدها الشارع » ([133]). وأيضا، فإن السنة أوجبت «أنه لا يحل أن يتوقف في امتثال أحكام الشرع إذا صحت بها الرواية على معرفة تلك المصالح، لعدم استقلال عقول كثير من الناس في معرفة كثير من المصالح، ولكون النبي (صلى الله عليه وسلم) أوثق عندنا من عقولنا» ([134])، يقول الدهلوي: «ولذلك لم يزل هذا العلم([135])، مضنونا به على غير أهله، ويشترك لـه ما يشترط في تفسير كتاب الله، ويحرم الخوض فيه بالرأي الخالص غير المستند إلى السنن ]و[([136]). الآثار» ([137])، وقد نقلنا قبل حين عن الغزالي أنه يبطل المصحلة ما لم ترجع إلى أصل في الكتاب أو السنة أو الإجماع . وأقوال علماء أهل السنة في تقرير هذا المبدأ أكثر من أن تحصى أو تضبط. لكن مع ذلك نلفي أهل السنة وافقوا الإمامية في التعليل المصلحي القائم على العقل، في مناسبات عدة من مصنفاتهم الكلامية والأصولية. فالمحاسبي مثلا يفيدنا أن من معاني العقل «البصيرة والمعرفة بتعظيم قدر الأشياء النافعة والضارة في الدنيا والآخرة» ([138])، ويصف العاقل بأنه من «عقل عن الله تعالى آياته في تدبيره، وحكمته في آثار صنعته» ([139])، ثم يستنتج أن «من لم تكن بصيرته الباطنة ثاقبة، لم يعلق به من الدين إلا قشوره، وأمثلته دون لبابه وحقائقه» ([140]). والبصيرة هي العقل أو تكاد، فقد عرفها أبوالبقاء الكفوي بأنها «قوة في القلب تدرك بها المعقولات» ([141]). ومعلوم أن الغزالي من القائلين بالتحسين والتقبيح الإضافيين، والتقبيح الإضافيين، وأكدنا أنه من القائلين بالمدركية الشرعية للمصالح، لكن كتبه في التصوف والعرفان تطفح بتعليلاته العقلية للشريعة، بعباداتها ومعاملاتها، وصرح في عدة مواطن من تواليفه أن العقل مصدر لاستنباط العلل والمصالح، فقد قال في «مشكاة الانوار»: «والعقل يتغلغل إلى بواطن الأشياء وأسراراها، ويدرك حقائقها وأرواحها، ويستنبط أسبابها وعللها وحكمها»([142])، وقال في «ميزان العمل»: «اعلم أن شرف العقل من حيث كونه مظنة العلم والحكمة وآلة لهما» ([143])، وقال في «شرف العقل وماهيته» : «والعقل منبع العلم، ومطلعه، وأساسه» ([144])، إلخ. وإذا كنا قد نقلنا عن الدهلوي أن المصالح مدركها الشرع في كتابه «حجة الله البالغة» فإننا نلفيه يقرر في نفس الكتاب أن إدراكها يكون «بتجشم العقول، وإمعان الفهوم» ([145]). ويزكي هذه التصريحات ويشفع لها، أن أهل السنة مجمعون على وجوب اعتبار الضروريات الخمس وحفظها من حيث الوجود والعدم([146])، ووجوب تقديم الأهم على المهم، وترجيح الأصلح على الصالح، إلخ، مما تقتضيه بديهة العقل، ولا يماري فيه من آمن بالشرع ومن جحده. فنستخلص من ذلك أن مدرك المصلحة عند أهل السنة هو الشرع والعقل على حد سواء؛ وفي تقرير ذلك يقول ابن القيم: «وليعلم العاقل أن العقل والشرع يوجبان تحصل المصالح وتكميلها، وإعدام المفاسد وتقليلها. فإذا عرض للعاقل أمر يرى فيه مصلحة ومفسدة، وجب عليه أمران: أمر علمي وأمر عملي، فالعلمي طلب معرفة الراجح من طرفي المصلحة والمفسدة، فإذا تبين له الرجحان وجب عليه إيثار الأصلح له» ([147]). وقد حاول محمد عبده أن يجمع بين قول القائلين بالتعليل العقلي والقائلين بالتعليل الشرعي ؛ فخص الثاني بما لا يعرف وجه الفائدة فيه في هذه الحياة، ولا فيما بعدها، كصور العبادات، وطرق المحاسبة علىالأعمال، وجعل من الأول إدراك حرمة بعض المنهيات، كالجري في أعقاب الشهوات، مما فيه مفسدة للصحة، ومضيعة للعقل، ومتلفة للمال، ومدعاة للعجز والذل، إلخ([148]). لكن محاولته التوفيقية هذه تواجه بتعليلات الكثير من علماء أهل السنة للعبادات، وما يجري مجراها، مما هو غير معقول المعنى، كما صنع الغزالي في «الإحياء»، والحكيم الترمذي في «إثبات العلل» , «الصلاة ومقاصدها»، وغيرهما، وأبو عبد الله البخاري الحنفي في «محاسن الإسلام»، وابن قيم الجوزية في «شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل»، إلخ. وفي الاتجاه الآخر نجد الإمامية قالوا بالتحسين والتقبيح العقليين، بيد أنهم نفوا عن العقل إدراك أسرار العبادات وحكمها([149]). ولكن نجدهم قد أثبتوا العلل لكثير من العبادات([150]). ومهما يكن من أمر، فإن أفضل مذهب ــ في نظري ــ لجعل الخلاف نظريا فقط، ورهينا للفظ لا للمعنى ، هو الإقرار بأنه لا خلاف بين علماء المسلمين ــ سنة كانوا أم شيعة ــ أن الشريعة معللة بالمصالح ، وأنه تعالى قد «أودع كتابه الودائع من خفيات الأسرار» ([151])، وأنه «سبحانه شرع لكل رسول شريعة الأمر والنهي من الحكمة البالغة» ([152])، وأن أحكام الدين جاءت «طبقا لمصالح العباد في نفس أفعالهم، فما فيه المصلحة الملزمة جعله واجبا، وما فيه المفسدة البالغة نهى عنه، وما فيه مصلحة راجحة ندبنا إليه ]....[ وهكذا في باقي الأحكام([153])، وأنه لا خلاف بينهم في أن الله سبحانه هو مصدر الأحكام الشرعية لجميع أفعال المكلفين، وإنما الخلاف بينهم حاصل في إمكان أن يعرف العقل بنفسه أحكام الله في أفعال المكلفين من غير وساطة الشرع، وبعبارة عبد الوهاب خلاف: «فلا خلاف في أن الحاكم هو الله، وإنما الخلاف فيما يعرف به حكم الله» ([154])، يقول محب الله بن عبد الشكور: «لا حكم إلا من الله تعالى بإجماع الأمة، لا كما في كتب بعض المشايخ أن هذا عندنا وعند المعتزلة الحاكم العقل»، فإن هذا مما لا يجترئ عليه أحد ممن يدعي الإسلام، بل إنما يقولون: إن العقل معرف لبعض الأحكام الإلهية، سواء ورد به الشرع أم لا، وهذا ما ورد عن أكابر مشايخنا أيضا» ([155]). اجتهاد المرجع الديني بالمصلحة عند الإمامية: للمرجع الديني والولي الفقيه دوره الحاسم في الاجتهاد بالمصلحة عند الإمامية، حين يعييه البحث عن الدليل اللفظي، إذ تكون لـه وظيفة تشريعية بإصدار الأحكام بعد تشخيص المصلحة في موضوعاتها في المجالات السياسية والاقتصادية والصحية والإدارية والأمنية والعسكرية([156])، الخ، كفرض الضرائب الإضافية، ومنع استيراد أو تصدير بعض السلع والمواد والعملات، وتحديد الأسعار، إذا دعت الضرورة الاقتصادية إلى ذلك، وكالإلزام بقوانين تنظيم المرور والتجارة والتعليم والبلديات، الخ([157])، يقول مرتضى مطهري: «...ولكن بعض العقوبات ترتبط في رأي الشارع بنظر الحاكم التي تجري ، مع الأخذ بعين الاعتبار العلل والشرائط والموجبات المحققة أو المشددة، وتسمى التعزيرات» ([158])، ويضيف «... كما قلنا في الموارد التي لم يعين فيها الحد للعقوبات الخاصة، تستطيع الحكومة الاسلامية أن تعاقب بكل ماتراه المصلحة، وتسمى هذه العقوبات بالتعزير» ([159])، ويقول محمد حسين الطباطبائي: «وأما الأحكام الجزئية المتعلقة بالحوادث الجارية التي تحدث زمانا وزمانا، وتتغير سريعا بالطبع، كالاحكام المالية والانتظامية المتعلقة بالدفاع وطرق تسهيل الارتباطات والمواصلات والانتظامات البلدية ونحوها، فهي مفوضة إلى اختيار الوالي ومتصدي أمر الحكومة. فإن الوالي نسبته إلى ساحة ولايته كنسبة الرجل إلى بيته، فله أن يعزم ويجري فيها ما لرب البيت أن يتصرف في بيته وفيما أمره إليه. فلوالي الأمر أن يعزم علىأمور من شؤون المجتمع في داخله أو خارجه، مما يتعلق بالحرب أو السلم، مالية أو غير مالية، يراعي فيها صلاح حال المجتمع بعد المشاورة مع المسلمين، كما قال تعالى: «وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله» ([160])، كل ذلك في الأمور العامة. وهذه أحكام وعزمات جزئية تتغير بتغير المصالح والأسباب التي لاتزال يحدث منها شيء، ويزول منها شيء، غير الأحكام الإلهية التي يشتمل عليها الكتاب والسنة، ولا سبيل للنسخ إليها» ([161]). ومن الأدلة التي يمكن أن تعتمد في استصلاح المرجع الديني أن الحلي أورد مسألة «من استمنى بيده»، وذكر حكمه – وهو التعزير - ، وأنه منوط بنظر الإمام، وساق رواية علي أنه ضرب يده حتى احمرت، وزوجه من بيت المال، ثم علق عليه بقول: «وهو تدبير استصلحه، لا أنه من اللوازم» ([162]). من خلال ذلك، ينكشف لنا دور الاستصلاح – عند الإمامية – في الاجتهاد والتشريع، ومسؤولية الولي الفقيه في مراعاة المستجدات على ضوء المصلحة المبنية على الفقهية الواقعي والشرعي. ولكن الاجتهاد المصلحي عندهم ليس على إطلاقه ــ كما قد يفهم مما قلناه عن الطباطبائي ــ ، بل المقصود هو الإجتهاد المصلحي وفق الضوابط المذكورة قبل حين. أما إذا كان مبنيا على الظن، فهو مذموم، ولا مقام له في عوالم التشريع والاجتهاد الإماميين. وفي تقرير ذلك يقول الخميني: «ومن القوانين الإسلامية التي وضعت لصالح الجماهير؛ قوانين الحرج والضرر والإضرار والإكراه وسواها. وهي كلها تعتبر بمثابة قوانين مشرفة على قوانين أخرى، وذلك خدمة للناس، والإسلام في وضعه لهذه القوانين قد راعى مقتضايات الزمن، واحتياجات البلاد والناس. فلو وجدت مثل هذه الظروف بالنسبة للبلاد أو للأفراد، فإن ثمة تغييرات تجرى علىالقوانين القائمة» ([163]). وتدخل الإمام عندهم يكون في إطار ما يسمى بـ «منطقة الفراغ» ([164])، حيث تكون لـه وظيفة منح هذه المنطقة «صفة تشريعية ثانوية حسب الظروف» ([165])، بمعنى أن له «صلاحيات تشريعية محدودة بحدود تقرير المصالح والمفاسد، والمصطلح عليها بمنطقة الفراغ، أو المصالح المرسلة([166])، وهذه الصلاحيات «متغيرة على أساس جلب المصالح ودرء المفاسد» ([167])، وتقريب ذلك بما قاله محمد باقر الصدر: «وحدود منطقة الفراغ التي تتسع لها صلاحيات أولي الأمر، تضم في ضوء هذا النص الكريم([168]) كل فعل مباح تشريعيا بطبيعته، فأي نشاط وعمل لم يرد نص تشريعي يدل على حرمته أو وجوبه... يسمح لولي الأمر بإعطائه صفة ثانوية، بالمنع عنه أو الأمر به. فإذا منع الإمام عن فعل مباح بطبيعته أصبح حراما، وإذا أمر به أصبح واجبا. وأما الأفعال التي ثبت تشريعيا تحريمها بشكل عام، كالربا مثلا، فليس من حق ولي الأمر الأمر بها. كما أن الفعل الذي حكمت الشريعة بوجوبه، كإنفاق الزوج على زوجته، لا يمكن لولي الأمر المنع عنه، لأن طاعة أولي الأمر مفروضة في الحدود التي لا تتعارض مع طاعة الله وأحكامه العامة» ([169]). فمصلحة الأمة تقتضي من ولي الأمر تغيير طبيعة الحكم من إطار الأحكام الواقعية الأولية إلى إطار الأحكام الثانوية([170]). وهذا هو ما يسمى لدى الإمامية بـ : «الأحكام الولائية»، وضابطها: «الأحكام التي يصدرها ولي الأمر في مجال ملء منطقة الفراغ أو المنطقة المباحة من التشريعات مما يغيرها إلى أحكام إلزامية» ([171])، وما دامت أحكامه إلزامية، فطاعته فيما فيه حفظ مصلحة أو درء مفسدة يشملها حكم الوجوب؛ يقول محمد علي التسخيري: « ولا ريب في أن وجوب إطاعة أحكام ولي الأمر هو من الأحكام الأولية، ولكن متعلقات هذه الأوامر تكتسب أحكاما ثانوية تقوم على أساس المصالح التي يراها ولي الأمر في عملية إدارته للمجتمع» ([172]). اجتهاد الحاكم بالمصلحة عند أهل السنة: لاجرم أن أهل السنة لا يخالفون الإمامية في وجوب تصرف الإمام وفق المصلحة التي تهدي الرعية في معاشهم ومعادهم، فابن نجيم مثلا يجعل في كتابه «الأشباه والنظائر» قاعدة يضمنها واجبات الإمام المصلحية حيال الرعية وهي: «القاعدة الخامسة: تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة» ([173]). كما صنف كثير من علماء أهل السنة في سياسة الإمام المصلحية، وقيدوا ذلك بضوابط شرعية وعقلية تعصم من توظيف الاجتهاد المصلحي في مآرب منحرفة عن مقصود الشارع في تطبيق شرع الله، وتكييف الواقع وفقه، وتدبير شؤون الأمة على هدى سياسة شرعية وعقلية سليمة، ومن هذه المصنفات؛ «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» لابن تيمية الحنبلي، و«الحسبة في الإسلام أو وظيفة الحكومة الإسلامية» له أيضا، و«الأحكام السلطانية» لأبي يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي، و«الأحكام السلطانية والولايات الدينية لأبي الحسن الماوردي الشافعي، و«التقسيم والتبيين في حكم أموال المستغرقين من الظلمة والغاصبين» لأبي زكريا الشبلي المالكي، إلخ، ناهيك عن الكتب التي تخصصت في الكلام على نظام الحسبة في الإسلام، والتي يكاد لا يعدها قانون العد والحصر. وما ذكرناه من وظائف مصلحية لدى ولي الأمر بالمنظور الإمامي، وطريقته في ملء منطقة الفراغ التشريعي هو عينه مقرر لدى أهل السنة، فلا نعيد.