ولـمّا كانت هذه الثقافة الجديدة تقوم على فلسفة ذات نزعة ماديّة علمانيّة، فإنها لا تستطيع أن تتقبّل أو تتحمّل أية ثقافة أخرى تقوم نظرتها إلى العالم على الدين – أي على الإيمان بالله بوصفه خالق الكون والاعتقاد بوجود حقائق ماورائية تتجاوز هذا العالم الظاهر للعيان. وفي الثقافة الجديدة نجد أنّ الإنسان – وليس الله – هو سيد الكون. ولذا فإنه لا حاجة للمرء لأي هدى الملهم إلاّ ما هداه إليه تفكيره العقلاني. وينبغي أن يكون الإنسان حراً في عمل مايريد عمله. هذا هو ما يصفونه بالحريّة وحقوق الإنسان أي أن يفعل المرء ما يشاء وليس بالضرورة ماهو صواب. وباستطاعة المرء هنا بسهولة أن يرى الفهم والتصوّر الخاطيء للحريّة ذاتها. إذ يوجد هنا خلط بين حريّة الاختيار التي هي المنبع الحقيقي للسعادة من ناحية، وحريّة التصرّف على غير هدى ملائم وسليم. فعندما تتم ممارسة حريّة الاختيار بالصورة المناسبة، لابدّ وأن يقود خيار المرء إلى الخير والسعادة وليس إلى الشر والشقاء. وفي الثقافة الجديدة فإنّ الحريّة لا تؤدي في العادة إلى سعادة البشر كلهم بل إلى سعادة عابرة للقلـّة ولبؤس دائم للأكثريّة. ومعنى ذلك أنّ حريّة من هذا القبيل ليست حريّة أبداً؛ بل هي افتقار إلى حريّة الاختيار نابعة من همينة فكريّة عالميّة، وهي الصفة الرئيسة التي تتسم بها العَوْلمة الثقافيّة كما بيّن الأستاذ الدكتور العطـّاس بحق([439]). وواقع الأمر أنّ حريّة معاقرة الخمر التي ربما تؤدي إلى الإدمان على المسكرات، وحريّة ممارسة الشذوذ الجنسي والبغاء التي قد تتمخض عن الأمراض التناسليّة، كما أنّ حريّة المقامرة التي تقود في العادة إلى خسارة الأموال وحرية التعاطي بالربا التي تكون عاقبتها الإفلاس في العادة، ليست هذه كلها من الحريّة في شيء. إذ لا يودّ أحد أن يكون مدمن خمرة ولا أن يكون مصاباً بمرض نقص المناعة المعروف بالإيدز، ولا يرغب في أن يسلب نقوده ولا أن