الفصل الثاني الـواقـعـيـة واقعية ضوابط الفطرة الواقعية تعبير عن انسجام الفكرة والسلوك مع حقيقة الإنسان ومتطلباته. وهذا ما يستدعي منّا البدء بتحديد واقع الفطرة الإنسانية لنستكشف مطالبها الواقعية. خلق الله الإنسان من طين مجبول على الاختيار بين الخير والشر، في قالب جسدي تسكنه حاجات وغرائز لا بدّ من تلبيتها، وفي نفخة للروح تسمو أو تهوي به بحسب تغذيتها، وقد مكّنه الله تعالى من قدرة إعمار الأرض وبناء الحضارات. بينما خلق الحيوان منقاداً لغرائزه لاشباعها، برتابة ومحدودية لا تمكّنه من التطور، وخلق الملائكة مأمورين بالطاعة، لا يختارون ولا يعصون ولا تشتهي أنفسهم، وينفذون مهمات محدّدة لا يحيدون عنها. وقد جاء التشريع الإسلامي منسجماً مع متطلبات الجسد والروح، ضمن ضوابط الإعتدال في كل منهما والتوازن بينهما، رافضاً لأي إنكار للحاجات والغرائز، ومربياً على سلوك يرقى بالإنسان نحو الأفضل، بما ينسجم مع إمكاناته وقابلياته لعروج درجات التقوى، ليصل إلى أي منها بسعيه وجهده. يشمل هذا التوازن النظرة إلى الدنيا والآخرة، فالدنيا متاع زائل والآخرة متاع دائم، فليأخذ الإنسان من الدنيا بقدر قيمتها وأثرها ليُبقي، للآخرة الثمرة النهائية الدائمة، ولا داعي لإنكار حياة الدنيا بحجة الآخرة، فللمرء فيها ما يؤدي إلى الآخرة، وله فيها ما يحتاجه بشكل طبيعي ومشروع، فليعشها بحدودها ومتطلباتها بشكل سليم.