المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها). والله ما يأرز إلا إلى أهلها الذين يقومون به، ويشرّعون شرائعه، ويعرّفون تأويله، ويقومون بأحكامه. ووصف ما عرضه الله على طلائع هذه الأُمة حين خاطبهم بقوله يذكرهم بنعمه السابغة عليهم: قد سننت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتكم على الواضحة إلاّ أن تضلوا بالناس شمالاً ويميناً. وكان الذين يقوّمون المعوج. ويدعون إلى الحق، وينصحون ويرشدون، ويعلمون في عهد مالك بن أنس هم الفقهاء السبعة أو العشرة، وتواتر بالمدينة، من المشاهير مائة وسبعون تابعياً. وجد الإمام في موطئه نحواً من ثلاث وثلاثمائة مسألة كانت من عمل أهل المدينة وأدرك ثلة من الصحابة. وكان يرجع في اجتهاداته إلى النقول الصحيحة لم يخالف ذلك إلا في مسائل ثلاثة. وكان مالك مسبوقاً في العمل بأقوال أهل المدينة. سبقه عدد من الشيوخ الذين نذكر منهم القاسم بن محمد وأبا بكر بن عبدالرحمن وابن شهاب وأبا الزناد وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمر بن أبي بكر بن حزم ويحيى بن سعيد الأنصاري وجعفر بن محمد الصادق وعبدالله بن عمر بن حفص. وممن كان له تاثير على منهجه الفقهي ربيعة الرأي وابن هرمز وابن شهاب الزهري ونافع مولى ابن عمر وزيد بن أسلم. وقد ضمّن الإمام مالك كتابه (الموطأ) كثيراً مما كان يرويه من عمل أهل المدينة يحدد بهذا منهجه العلمي، ويؤكد بقوله عن نفسه: نسب الرأي إليّ بعد الاجتهاد مع السنة، وما مضى عليه أهل العلم المقتدى بهم، والأمر المعمول به عندنا من لدن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الراشدين ومن لحق بهم من التابعين. فذلك رأيهم ما خرجت عنهم إلى غيرهم. وقد رأينا الإمام مالكاً يقدم عمل أهل المدينة على خبر الواحد، ويضعه بعد الإجماع وقبل القياس.