وهكذا يكون الفقيه قادراً على تصوّر محامل ألفاظ الشريعة، في انفرادها واجتماعها، وافتراقها وقربها من أصحاب اللسان العربي القح. فلا يعزب شيء منها عن إدراكه، ويبلغ به في استنباط النصوص فهماً دقيقاً، والوقوف على مقتضيات الألفاظ وفروقها من عموم وإطلاق ونص وظهور وحقيقة وأضداد ذلك كمسائل تعارض الأدلة الشرعية من تخصيص وتقييد وتأويل وجمع وترجيح ونحو ذلك. وهي كلها في تصاريف مباحثها مقصورة على ألفاظ الشريعة، وعلى المعاني التي أنبأت عليها الألفاظ. وهي علل الأحكام القياسية. وبناء على هذا الأساس نجد أئمتنا وفقهاءنا ينطلقون إلى ضبط أحكام الفروع والمسائل، حسب اجتهاداتهم وأفهامهم للمصدرين الأساسيين، ملحقين بهذا ما هم في حاجة إلى ضبط أحكامه من قضايا مستجدة. ثم هم كما ذكرنا لم ينحصر اجتهادهم في اعتماد المصادر الأصلية، بل أضافوا إليها المصادر التبعية التي أشرنا إلى بعضها قبل. فهذا الإمام أبو حنيفة تتضح طريقته الاجتهادية فيما حددناه، تاركاً لمن جاء بعده من الأئمة المبرزّين في المذهب الرجوع إلى مجموعة دقيقة جامعة شاملة من مدوّنات وضعوها مثل كتب ظاهر الرواية، والنوادر مثل كتاب الحيل والوقف للخصاف، والنوازل للسمرقندي. وجاءت المذاهب الأخرى كالمالكية سالكة نفس المنهج في تعاملها مع المصدرين الأساسيين، مضيفة إليهما عمل أهل المدينة، والعمل بالمصلحة المرسلة، والأخذ بقول الصحابي. كما أخذوا بالاستحسان في مسائل كثيرة. ومن أبرز كتبهم المعدودة عندهم في الأمهات: الموطأ والمدونة. وجاء الإمام الشافعي فنحا نحو سابقيه. فجعل القرآن قبلته الأولى وأساس التشريع عنده العمل بالسنة. ولا يعتد بخبر الواحد إلا بشرط ثبوته عن ثقة عنده. في هذه الحال يقدّمه على القياس وعلى رأي الصحابي