هذه الآية الكريمة وامثالها إنما تنهى عن التفرق في أصل الدين والتوحيد، وما يطلب فيه القطع دون الظن تبين لنا أن دلالتها لا تنسحب على اختلافات المجتهدين من الفقهاء، لأن اجتهادهم كما سبق يدور في فلك الأحكام الظنية دون القطعية. وليس معنى هذا تحبيذ الخلاف أو الدعوة إليه، ولكني أردت أن اشير إلى أنه في مجال الدراسات الفقهية لا يعد قدحاً، وان الفقهاء لم يخرجوا في اجتهادهم على أصول دينهم. ولهذا الإختلاف بين الفقهاء أسباب كثيرة يمكن إرجاعها إلى ثلاثة أمور: أولاً: التفاوت في القدرات النفسية والعقلية، فالملاحظ أن الناس يختلفون اختلافاً بيناً في قدراتهم النفسية والعقلية، ويندر أن يتفق شخصان في الذكاء والإدراك ولو من بعض الوجوه، وتلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، وما دام الأمر كذلك فلا مناص من أن تتفاوت نظراتهم وأحكامهم، وتختلف آراؤهم وأفكارهم وبخاصة في المسائل التي تحتمل الخلاف. وإذا كان الإنسان يتأثر بالبيئة التي يعيش فيها، وتتلون ثقافته وعقليته بألوان الثقافة والتفكير التي تشيع في مجتمعه، أو مسقط رأسه، فإن هذا يفسر لنا بعض أوجه الخلاف أو اسبابه بين الفقهاء حيث اختلفت مواطن الفقهاء اختلافاً واضحاً من الناحية الفكرية والإجتماعية والجغرافية، فانعكس هذا الاختلاف على أفكارهم واتجاهاتهم الفقهية، وحكى لنا التاريخ أن العراق كان موئلاً لمدرسة فقهية عرفت بأسم (مدرسة الرأي)، وأن الحجاز كان موئلاً لمدرسة أخرى عرفت باسم (مدرسة الحديث)، وأن الإمام الشافعي(رض) كان له مذهب في العراق، فلما رحل إلى مصر غير في آرائه، وكان له فيها مذهب آخر عرف بالمذهب الجديد. ثانياً: اللغة العربية لغة غنية بمفرداتها وأساليبها، وأحياناً يستعمل اللفظ فيها بمعان مختلفة، وقد تكون متضادة أو مشتركة، والمعروف أن مصادر الشريعة ونصوصها في أرقى درجات الفصاحة اللغوية، فكان الفقهاء يختلفون في تفسير بعض المفردات أو الأساليب، ويذهب كل فقيه أو طائفة من الفقهاء وجهة خاصة في الفهم