بالدليل القاطع الذي لا يحتمل تأويلاً ولا شكاً، مثل الإيمان بوحدانية الله سبحانه وتعالى، والايمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما فيه من ثواب وعقاب، وأن محمداً (صلى الله عليه وآله) آخر الأنبياء، والقرآن الكريم آخر الكتب المنزلة، وأنه جاء إلى الناس كافة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكذلك الايمان بوجوب الصلاة، والزكاة على من ملك نصابها، والحج على من استطاع إليه سبيلاً، والصيام للقادر عليه، وأن الزنا والخمر والربا حرام، وغير ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة، هذه احكام وامثالها قطعية ثبتت بالدليل الذي لا يحتمل خلافاً أو تأويلاً، وهي لهذا حقائق ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ولا يتصور اجتهاد فيها، ومن ثم لا يتسنى أن يقع خلاف حولها. الأحكام الظنية: وهي تلك الأحكام التي لم ترد على النحو الذي وردت به الأحكام القطعية من ثبوتها بالدليل المتواتر الذي لا يحتمل تأويلاً، وذلك مثل تحديد مقدار الرضاع الذي يثبت به التحريم، فالآية الكريمة المتعلقة بموضوع الرضاع هي: (حرمت عليكم امهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وامهاتكم اللاتي ارضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وامهات نساءكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل ابناءكم الذين من اصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفوراً رحيماً)(1). وليس في الآية تحديد لمقدار الرضاع الذي يحرم قيام علاقة زوجية، وقد اختلف الفقهاء في ذلك اختلافاً كبيراً، ولكل رأي ادلته وتعليله. فمثل هذا الحكم ظني الدلالة من الناحية التفصيلية، لأن الآية من حيث ورودها ونقلها بالتواتر قطعية، ولكن من حيث تحديدها لمقدار الرضاع المحرم ظنية، إذ لم تنص على شيء من ذلك. ومن هنا كان مثل هذا مجالاً للاجتهاد والاختلاف، على ان طبيعة الاختلاف في الأحكام الظنية تقوم أساساً على رغبة اكيدة في تحري الحق، فقد كان الأئمة الفقهاء يبذلون قصارى جهودهم في استخراج الأحكام الفقهية، وأسمى ما تطمح إليه نفس كل منهم أن يوافق قوله الحق، وأن ينال حظ المجتهد المصيب. وقد يرى بعض الباحثين أن القرآن الكريم يحذر من التفرق وينفر من الاختلاف في مثل قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات واولئك لهم عذاب عظيم)(2). فلا يجوز أن تكون اختلافات الفقهاء أمراً مقبولاً، لأنها يمكن أن تكون داخلة في مدلول هذه الآية التي تحض على الوحدة وتنفر من الإختلاف، غير أننا إذا أدركنا أن