والحداثة إنما بدأت في الغرب من مقولة الانتصار للعقل وإعلاء شأنه والتمحور حوله، وعلى أساس القطيعة مع الدين أو الوحي أو الغيب أو الميتافيزيقا كما يصطلحون، وحسب رأي “آلان تورين” “كان المفهوم الغربي الأشدّ وقعاً والأكثر تأثيراً للحداثة، قد أكد بصفة خاصة على ان التحديث يفرض تحطيم العلاقات الاجتماعية والمشاعر والعادات والاعتقادات المسماة بالتقليدية، وان فاعل التحديث ليس فئة أو طبقة اجتماعية معينة وإنّما هو العقل نفسه، والضرورة التاريخية التي مهدت لانتصاره.. وترتبط فكرة الحداثة إذن ارتباطاً وثيقاً بالعقلية والتخلي عن احداهما يعني رفض الأخرى([27]). من هنا يتحدد الفارق الجوهري بين العقلانية الغربية التي نهضت وانتصرت لنفسها باقصاء الدين وكل ما يرتبط بالغيب، وبين العقلانية الإسلامية التي اسست العلاقة التواصلية والتكاملية بين الدين والعقل، ومن أكثر المقولات دلالة على ذلك هي تلك التي تبلورت وتحددت في اصول الفقه الذي هو منظومة الاجتهاد، مثل مقولة ما حكم به العقل حكم به الشرع، واعتبار الشرع سيد العقلاء، إلى غير ذلك من مقولات. ثانياً: التحريض المستمر والدؤوب على البحث العلمي والمعرفي، فالاجتهاد هو دعوة نحو مضاعفة الجهد العلمي بلا انقطاع أو توقف وإنّما بتواصل وتراكم. وهو صياغة ذهنية يتولد منها فعل الاجتهاد بصورة مستدامة لا تتهاون في تحصيل العلم والمعرفة والتقدم ما هو إلا حصيلة تراكمات العلم واستخداماته في مجالات الحياة المختلفة. والحداثة التي ربطت العلم بالتقدم، هذا الربط نتوصل إليه من خلال مفهوم الاجتهاد الذي هو انتصار للعلم بما يحقق التمدن والعمران الإنساني من غير تصادم أو تعارض مع القيم والأخلاق. وقد جسد علماء المسلمين هذا النشاط الدؤوب في تعاملهم مع العلم والبحث العلمي في التعلم والتحصيل وفي الكتابة والتأليف وفي البحث والتحقيق، في ظل ظروف شاقة وصعبة تحملوا فيها التعب