والفكرة التي أود لفت النظر إليها باهتمام، هو ان مفهوم الحداثة الذي ابتكره الغرب قد عبرت عنه كل التجارب الحضارية التي مرت على التاريخ الإنساني، من حيث مضمونه وجوهره، فكل تجربة حضارية ينبثق عنها مفهوم يعبر عن تلك التجربة، وان كان يختلف في تركيبه اللغوي والبياني واللساني، عن تركيب لفظ الحداثة عند الغرب، بسبب اختلاف المنظومات الفكرية واللغوية نفسها. لأن كل حضارة في زمن صعودها وتقدمها تبتكر لها، بكفاءة عالية، منظومة من المفاهيم تكون على درجة من الفاعلية والدينامية لارتباطها الشديد بالروح العامة لتلك الحضارة في انبعاثها ونهوضها. وإذا كان الغرب هو الذي يعنينا في هذا المجال، فسوف نتخذ منه شاهداً على هذه الحقيقة، باعتباره يتربع على حضارة هذا العصر. فالمؤرخون والباحثون الغربيون قسموا التاريخ الأوروبي بعد العصور الوسطى إلى مراحل وأزمنة حسب تطوره الفكري، وأطلقوا على كل مرحلة تسمية تعبر عن مفهوم يختزل تلك المرحلة في تطوراتها وتغيراتها، وفي ملامحها واتجاهاتها العامة والرئيسية، فأطلقوا مفهوم النهضة على القرن السادس عشر الميلادي، ومفهوم الأنوار على القرن الثامن عشر، ومفهوم الحداثة على القرن التاسع عشر، وهناك من أطلق مفهوم ما بعد الحداثة على النصف الثاني من القرن العشرين، ومفهوم العولمة على القرن الحادي والعشرين، فكل مرحلة كانت تنشئ مفهوماً يعبر عن تجربة تلك المرحلة في التطور والتحول الفكري والاجتماعي، المعرفي والتاريخي، أو كان ينظر إليها من خلال مفهوم هو الأكثر تعبيراً وتمثلاً لتلك المرحلة بحيث يكون من الممكن التوافق لحد كبير على ذلك المفهوم الذي يفترض فيه الإنصاف بخاصية السعة والمرونة والشمولية والاختزال. والحداثة في نظر الغربيين هي المفهوم الجامع لكل تلك المراحل بتقسيماتها الزمنية والتاريخية وبتعدد تسمياتها وعناوينها، فهي مراحل متعاقبة في التقدم