فالتعبير عن فهم الدين عموما وعن استنباط الأحكام خصوصا بـ(التفقه في الدين أو في الأحكام) من حيث المادة والصيغة مشعر بما يتطلبه فهم الدين وخاصة قسم الأحكام منه من الدقة والتعمق، الأمر الذي عبّر عنه القرآن الكريم – ثم الفقهاء – بـ (الاستنباط). قال تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) (النساء/ 83). والإستنباط في اللغة هو استخراج الماء من البئر، ثم استعير لإخراج ماخفي من الأحكام وغيرها من مصادرها ومن هذا المنطلق شاع إطلاق (الفقه) على علم الأحكام الشرعية وكذلك (التفقه) على عملية استنباط الأحكام. ثم عبّروا عنها في وقت سابق لا يعلم مداه بـ (الاجتهاد) باعتبار أنها تتطلب جهدا كبيرا واستفراغا للوسع – وقد عرّفوا به الاجتهاد أيضاً – فقالوا: (الاجتهاد هو استفراغ الوسع لمعرفة الاحكام). ولعلهم حينما عبّروا عن الاجتهاد كمصدر من مصادر الفقه، ثم أطلقوه على عملية استنباط الاحكام تبعوا في ذلك معاذ بن جبل الصحابي رضي الله عنه، حينما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعثه إلى اليمن قاضيا، فسأله – كما جاءت في كتب الحديث([1]) : ما معناه: (بماذا تقضى؟ فقال: بكتاب الله، فقال عليه السلام: فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول الله، فقال: فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيي..) وهذا الحديث كالنص على أن الاجتهاد عند معاذ كان مصدرا من مصادر القضاء بعد فقدان الحكم في الكتاب والسنة. ولكنه مالبث حتى أطلق على نفس استنباط الاحكام من مصادرها. وكيف كان فقد استمر الاجتهاد في جميع العواصم الإسلامية العلمية كالمدينة ومكة والعراق والشام ومصر وغيرها عند فقهاء البلاد استنادا إلى الكتاب والسنة وما ألحق بهما من الإجماع والقياس والرأي والاستحسان وغيرها على خلاف بينهم في غير الكتاب والسنة من الأدلة.