ولا يقتصر اثر معرفة الواقع على تصوره ومحاكمته بمقتضى دلائل النصوص، بل له قدرة ـ كما قلنا في الكلام على بيان الأهمية ـ على توجيه الأدلة ـ الظنية ـ فتؤولها أو تؤكدها وهكذا، وعليه فالاجتهاد والتجديد لابد لهما من نظرة ثاقبة لما يدور حول الإنسان، وبذلك يتسنى للمجتهد المعاصر ان يضيف لبنة قوية في بناء التجديد. كما أن الواقع ذاته يحدد المسائل المطروحة فهي تعكس ظروف المذاهب التي ناقشتها للتمازج الواضح بينها. فالإباضية ناقشوا القضايا السياسية كمسالك الدين وغيرها وربما كان تعرضهم لها أكثر من غيرهم، وفي الوقت ذاته اطروا المباحث المتعلقة بالأفلاج في اطارها الشرعي وبينوا حريمها لأنها واقع لا يمكنهم إغفاله. والحنفية أكثر المذاهب ـ من حيث العموم ـ مناقشة لبيوع الذرائع لأنها نشأت بين اظهرهم. بل احياناً تختلف المسائل المطروحة بين زمن وآخر فلذا نجد الشيعة الإمامية المتأخرين يناقشون ولاية الفقيه بينما لا نجد لها ذكراً عند متقدميهم. والذي يؤسف حقاً أن الوقت الذي كان الغرب فيه يسعى جاهداً لاكتشاف اسرار الطبيعة بالغوص في أعماق البحار أو الصعود في طبقات الفضاء، باذلين كل ما في وسعهم، نجد حال ذوي الهمة من المسلمين ـ فما بالك بغيرهم ـ كما يصفهم شيخنا العلامة أبو إسحاق اطفيش رحمه الله بقوله: (ترى الشخص منهم يجهد نفسه ليلاً ونهاراً في درس مسائل الفتوى واللعان والظهار والسلم والشفعة والاجارات وما أشبه ذلك من مسائل الفروع التي تنقضي الدهور ولا يحتاج إلى شيء منها)([50]) مع أن البحث عن ما لا يقع ليس مطلوباً شرعاً ولا عقلاً فلا ينبغي السؤال عنه ولا البحث فيه. والنظر لا يقتصر على العلوم المعاصرة بل يتعداها إلى كل علم فتاريخ الأمم والشعوب له دوره البارز في تحديد دلالات الاجتماع البشري، ويرينا العبر شاخصة