الاهتمام والعناية بأمـر وحـدة الأمـة الإسلامية الشيخ علي الدهواري السراواني أستاذ مدرسة دار العلوم زنكيان من الجمهورية الإسلامية الايرانية بسم الله الر حمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول اللّه وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فإن إحساس الأمة المسلمة بحاجتها إلى الوحدة وإلى التقريب في هذا العصر إحساس منطقي وواقعي. ذلك لأنها قد أضرت بها الخلافات - الواقعة بينها وأنهكتها النزاعات المدمرة والتي كانت سبباً لضعفها وضياع حقوقها في عصر لم يعد يسمع فيه لصوت الضعفاء ولا لأنين الجرحى. لاشك أن الإختلاف معوق لأمة الإسلام عن النهوض والتقدم ومعرّض لها أيضاً لأوخم العواقب وأسوأ الأحوال. ودليل ذلك أنها ما وقعت في براثن الإستعمار الغربي ردحاً من الزمن، يسومها الخسف ويصب عليها سياط العذاب والإهانة إلا بعد أن تفرقت جماعتها وقاتل بعضها بعضا. وإنها والله - اليوم - لعرضة لمحنة قاسية أشد من محنة الإستعمار السابقة. وذلك لما كثرت فيه الدعوات وتميزت فيه التكتلات واختلفت فيه مناهج الحياة وكل حزب بما لديهم فرحون. وقد غشيت العالم الإسلامي من هذا كله سحب معتمة حجبت عن الكثيرين أضواء الحقيقة. وغزت عقول المسلمين حملات فكرية مشككة أوقعت العوام في حيرة وتركتهم في متاهة. تشتتت فيها الصفوف وتفرقت فيها الكلمة وضاعت فيها الشخصية الإسلامية - السليمة، فطمع فيهم العدو وعجز عن مساعدتهم الصديق. فاغتصبت بلادهم ونهبت ثرواتهم ودنست مقدساتهم. وعجز العالم كله ماثلاً في المنظمة العالمية (هيئة الأمم) أن يفعل لنا شيئاً مهما كان الحق واضحاً والظلم فادحاً. وأصبحنا على كثرة عددنا نكاد لا يعبأ بنا. فتخلفنا عن مكانتنا المرموقة وتخلينا عن مواقع قيادتنا الحكيمة. بل أصبحنا تبعاً لغيرنا وبدون اختيارنا. الأمر الذي جعل المخلصين من علماء الأمة أن يبحثوا عن الشخصية الإسلامية الضائعة وعن المنهج - العلمي الصالح، وأن يتطلبوا أقوم السبل التي تعيدنا إلى ماكنا عليه وترد لنا حقوقنا وتخلصنا من تبعيتنا لغيرنا ونصبح حيث وصفنا الله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس)([1]). فلذا وجب علينا وعلى جميع المصلحين من الأمة الإسلامية أن يسارعوا إلى تلافي الموقف بجمع الأمة المحمّدية تحت لواء واحد. وهو الله ولا إله إلا اللّه ومحمد رسول اللّه. فلا يعبد في ديارنا إلا اللّه ولا يتابع إلا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله). قال تعالى: (وأطيعوا اللّه ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن اللّه مع الصابرين)([2]). وقال تعالى: (واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرقوا)([3]). والمعنى: تمسكوا بكتاب اللّه ودينه وجماعة المسلمين، حال كونكم مجتمعين، لا يتخلف منكم أحد أبداً. والاعتصام والتمسك بكتابه سبحانه وتعالى يعني: العمل بما فيه. فيعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ويحلون حلاله ويحرمون حرامه ويلتزمون بآدابه ويتحلون بأخلاقه ويتمسكون بعقائده وأداء فرائضه وإقامة حدوده والتأدب بآدابه والتجمل بأخلاقه مع ملازمته أهله القائمين به والداعين إليه. إن إرتفاع الأصوات المسلمة من هنا وهناك تنادي بضرورة وحدة الأمة وإجتماع كلمتها. أصوات صادقة ينبغي أن تتجاوب لها الأقطار الإسلامية لتنقذ نفسها وتحمي حقها. ولكنه لابد للأمة الإسلامية وهي تلم شعثها وتوحد صفوفها - لابد لها من إدراك صحيح للأسباب التي كانت وراء هذا الواقع، وللأسس التي ينبغي عليها والوسائل التي يمكن أن تحقق بها تلك الأسس. وذلك لئلا تنتقل من واقع منحرف إلى واقع آخر منحرف. وإن المؤتمر العالمي الثاني عشر الذي سيعقده مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية بمناسبة أسبوع الوحدة لعام 1420هـ، بطهران، لهو إستجابة موفقة لمدارسة السبل التي تؤدي إلى وحدة الأمة. وهذا بحث موجز بعنوان: الإهتمام والعناية بأمر وحدة الأمة الإسلامية وتقريب المذاهب والفرق الإسلامية. أحببت أن أشارك به في هذا المؤتمر، راجياً من اللّه سبحانه أن ينفع به. ويتضمن هذا البحث أربعة أقسام. تحت كل قسم منها عدة قضايا شارحة له، ثم ألحقت بها خاتمة موجزة، بينت فيها أهم ما اشتمل عليه هذا البحث. أقسام البحث القسم الأول: واقع الأمة الإسلامية: أولاً: في العقيدة. ثانياً: في العبادة . ثالثاً: في الشريعة. القسم الثاني: أسباب هذا الواقع: 1- الجهل بدين اللّه. 2- تمزيق الإستعمار لبلدان المسلمين. 3- الغزو الفكري. القسم الثالث: أسس وحدة الأمة الإسلامية: 1- وحدة العقيدة. 2- وحدة الغاية. 3- وحدة القيادة. 4- وحدة المنهج. القسم الرابع: وسائل تحقيق أسس الوحدة: 1- التعليم الموجه. 2- الإعلام الملتزم. 3- الإقتصاد المستقل. 4- ايجاد مراكز علمية كاملة. ثم الخاتمة: أسأل اللّه سبحانه أن يهئ أسباب الوحدة الصحيحة بعيداً عن العصبية المذهبية، وأن يجمع كلمة الأمة على الحق إنه سميع مجيب. القسم الأول: واقع الأمة الإسلامية من الواضح البيّن حالة العالم السياسي، والسياسة التي فرضت على الجميع وألزمت العالم كله العيش ضمن تكتلات سياسية وأحلاف عسكرية وإتفاقيات إقتصادية. وليس بوسع أيّ دولة أن تعيش وحدها في معزل عن هذا العالم بعيدة عن تلك التكتلات، لقوة ترابط الدول بعضها مع بعض، شاءت أم أبت. ولم تعد السياسة مجرد تنظيم لعلاقات الدولة في الخارج. بل أصبح الداخل مرتبطاً بالخارج في السلم وفي الحرب عن طريق الإنتاج والتسويق. فهي منافع مشتركة ومصالح متبادلة. توثقت باتفاقيات عالمية أو ثقافية وأحلاف عسكرية. وأهم ذلك كله الأحلاف العسكرية، لأنها لحماية الدولة بكل مرافقها. والداعي لكل ذلك من اتفاقيات وأحلاف هو شعور تلك الدول بالضعف وبالحاجة إلى تضامنها بعضها مع بعض. وذلك منذ الحرب العالمية الأخيرة. حيث كانت عصبة الأمم لدول أوربا ضد هتلر والنازية لعجز تلك الدول منفردة عن مقاومتها. وبعد عصبة الأمم جاءت هيئة الأمم وضمت دول العالم على أمل الحياة في أمن وطمأنينة. ولكن هيئة الأمم لم تحقق للعالم ما أمله فيها حيث أقيمت في بادئ أمرها على التخصيص والإمتياز. فمنحت الدول الكبرى وأمريكا حق النقض (الفيتو). ومن العجب أن يمنح هذا الحق للدول القوية التي تستطيع أن تظلم وأن تتعدى مما يصعب معه استخلاص حق المظلوم أو استرجاع حق مغصوب. وكان الأولى لو أجيز ذلك أن يعطى للدول الضعيفة، لترد به عن نفسها. وأن أحداث التاريخ وخاصة في الدول النامية لتشهد بذلك. وكل تلك الهيئات والمؤسسات العالمية لم تستطع استتباب الأمن ولا منح الطمأنينة للعالم. فنشأت تكتلات وأحلاف عسكرية انطلقت في سياق التسلح النووي بما يهدد العالم كله بالدمار. وذلك في حلفي الناتو وحلف شمال الأطلسي. ومع هذا كله فإن هذه المؤسسات الدولية على اختلاف مناهجها وأشكالها فهي إما إقليمية محدودة وإما عالمية غير عادلة. وواقع الأمة الإسلامية أيضاً مكشوف لا يكاد يجهله أحد. فقد تعرض لأمراض متعددة وإنحرافات متنوعة بحيث لايكاد يسلم منه شيء.. لا في العقيدة ولا في العبادة ولا في الشريعة. وسنحاول هنا الإشارة إلى ذلك الواقع بشيء من الإيجاز: أولاً - في العقيدة: إن أخطر الإنحرافات التي تعرضت لها الأمة المسلمة هي الإنحرافات في العقيدة.. ولا نستطيع هنا استيعابها وتفصيلها ولكننا سنكتفي بالتنبيه على بعضها: 1- إنحرافات إلحادية: هدف أصحابها إستبدال المبادئ الكافرة بعقيدة الإسلام.. وهم طوائف متعددة. منهم من يعلن عقيدته الإلحادية ويظهر كفره باللّه ورسله واليوم الآخر. ومنهم من يخفي ذلك وراء شعارات، ظاهرها الدعوة إلى الإصلاح وباطنها الكفر والإلحاد. 2- إنحرافات طائفية: تتمثل في طوائف مستقلة كالقاديانية والبهائية ونحوهما من الطوائف التي خرجت على عقيدة الإسلام بدعوى النبوة لزعمائها ونزول الوحي عليهم وهي تتستر في كثير من البلدان باسم الإسلام وهي خارجة عليه لمخالفتها لعقيدة ختم النبوة التي هي جزء من عقيدة المسلمين. ثانياً - في العبادة: لم تسلم العبادات كذلك من الشوائب حيث تعرضت لأنواع متعددة من الإنحرافات والبدع. نورد طرفاً منها: 1- الغلو المفرط في أدائها: والذي كان يمثله فيما سبق طائفتا الخوارج والصوفية الغالية حيث كان لكل منها غلو مفرط في جانب أو جوانب من الإسلام. فالخوارج كانوا يصومون النهار ويقومون الليل أبداً حتى أصبحت أجسادهم شاحبة نحيلة، من طول القيام وشدة الجوع والعطش. والصوفية الغالية بالغوا في الذكر والزهد حتى كان أحدهم يعيش على الصدقات والهبات ويخلو بنفسه في الزوايا المظلمة، ليصل بزعمه إلى درجة اليقين فتسقط عنه التكاليف. 2- الإهمال المطلق للعبادات والإكتفاء بلفظ الشهادتين. وهذا الإنحراف كان من ثمرات الإرجاء الذي لا يعطي اهتماماً إذ أن الإيمان يثبت عند المرجئة بالقول فقط. وقد أصبح في الآونة الأخيرة ترك العبادات ظاهرة بارزة في أغلب المجتمعات الإسلامية ولا شك أن هذا لا يتفق مع أصول الدين. 3- عدم إلتزام كثير من المسلمين بالأداء الصحيح للعبادات. فهو يؤديها بصورة ناقصة أو محرفة وهو لا يشعر بذلك وقد يظن أنه يؤديها بالصورة الصحيحة. فكان من نتائج ذلك حرمانهم من لذة العبادة وثمراتها. ثالثاً - في الشريعة: لم تقتصر الإنحرافات على الجانبين السابقين بل شملت - كذلك - الشريعة. حيث تعرضت في الآونة الأخيرة التي تمزقت فيها الأمة وتحطمت فيها الخلافة الإسلامية - تعرضت إلى إنحراف وفساد بل إلى حرب وعداء في كثير من البلدان الإسلامية. نذكر طرفاً من ذلك: 1- محاربة الشريعة وإستبدال القوانين الوضعية بها. وذلك من آثار الإستعمار العسكري والفكري الذي مزق الأمة وأفسد عقليتها بحضارته وصناعته وكفره وجحوده.. فوجد في المسلمين من يتحمس لتلك القوانين ويتبنى ذلك الكفر والضلال. هذا إلى جانب ما خلفه الإستعمار في بلدان المسلمين من أنظمة كافرة لازالت تسيطر على كثير منها إلى اليوم بعد أن كانت تحكمها الشريعة الإسلامية. 2- محاولة التوفيق بين الشريعة الإسلامية والأنظمة الوضعية «فيؤخذ من الشريعة الإسلامية ما يتعلق بالأمور الشخصية وبعض الجوانب الأخرى ثم تكمل من القوانين الوضعية. هذا وإن كان أصحابه أخف من المتقدمين ولكنه كذلك طعن في الشريعة الإسلامية وإعتقاد نقصها وحاجتها إلى أنظمة أخرى مشاركة. هذا عرض مجمل لواقع المسلمين الذي قد أصيب في كل من جوانبه. مما كان له أسوأ الأثر على وحدة الأمة وإجتماع كلمتها.. فقد أصيب في عقائدها.. وعباداتها... وشريعتها.. ومالم يصحح هذا الواقع على ضوء الكتاب والسنّة فلن تقوم للأمة قائمة ولن تجتمع لها كلمة. القسم الثاني - أسباب هذا الواقع: لقد كانت هناك أسباب متعددة وراء ذلك الواقع نذكر طرفاً منها وهي: أولاً - جهل الأمة بدينها: إذ لولا الجهل بكتاب اللّه عزوجل وسنّة رسوله(صلى الله عليه وآله)، لما وجدت تلك الضلالات طريقاً إلى المسلمين لا في عقيدتهم ولا في عبادتهم ولا في شريعتهم. فقد قال النبي(صلى الله عليه وآله): «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما أبداً كتاب اللّه وسنتي».([4]). فلولم تصاب الأمة بداء الجهل بهما لما وصلت إلى حيث ما وصلت إليه. ونحن نلمس أصابع الغزو الإستعماري في مناهج التعليم في كثير من بلدان المسلمين والتي قد خلت أو قلصت منها المواد الدينية حتى أن المتخرج من تلك المدارس لايكاد يحسن فهم دينه... بل لايفهم من دينه إلا أنه مجموعة من العبادات المحددة فقط. وهذا الجهل هو الذي يمهد الطريق لكل وارد غريب يتسلل إلى البلدان الإسلامية. ثانياً - تمزيق الإستعمار لبلدان المسلمين: كانت الأمة الإسلامية أمة واحدة، تستظل براية واحدة وتخضع لقيادة واحدة فكانت ذات شوكة ومنعة. ثم لم تلبث أن سرت فيها أمراض فتاكة خلخلت بناءها وأفسدت أبناءها، فضعفت قوتها وذلت عزتها فسهل على أعدائها القضاء عليها وتمزيقها إلى دويلات وإمارات واستولت على كثير منها فترات طويلة ثم خرجت منها مخلفة وراءها آثارها الإستعمارية التي لاتزال إلى اليوم. وقد ركز الإستعمار أثناء وجوده على إحياء القوميات الجاهلية التي كانت عليها قبل الإسلام فاستجاب لها بعض المسلمين فحملوا لواءها ودعوا إليها فكان من ثمار تلك: تعميق الإختلافات وإضعاف الروابط بين أفراد الأمة . ثالثاً: الغزو الفكري المنظم: إن في العالم اليوم تيارات فكرية تنشط وتتحرك وتغزو وترتكز عليها مجتمعات وتقوم على فلسفتها شعوب وتكون الرابطة بين أفراد هذه الشعوب وتنبثق عنها نظم إجتماعية وسياسية وإقتصادية وتربوية. ولسنا نعني الآن الأفكار الجزئية الخاصة بموضوع معين، لأنها ليست إلا فروعاً لأصول وثمرات لشجرة. ولكننا نقصد مجموع الأفكار التي تكون تياراً عاماً ومذهباً شاملاً حيث تتولد منها نظم سياسية وإقتصادية وإجتماعية. ويهمنا أن نعرف موقف المسلمين منها في الواقع وموقفهم الواجب. وكيف غزتهم وإلى أيّ حد تأثروا بها؟ وهل تتعارض مع الإسلام أم لا؟ وإذا كانت تتعارض معه فهل هذا التعارض كلي شامل وأصلي أم جزئي عارض؟ وهل يكوّن الإسلام اليوم تياراً فكرياً كذلك يتحرك وينشط؟ وهل حركته هذه في حدود البلاد الإسلامية فقط أم في النطاق العالمي؟ أعتقد أن هذه الأسئلة هامة جداً وأن الإجابة عليها تحدد موقفنا نحن المسلمين في العالم، موقفنا الذي نختاره لأنفسنا، وعلى أساسه نرسم لحياتنا الخطط في المجال العقائدي وفي المجال الإجتماعي والسياسي والإقتصادي وغيره وبه تتحقق بيننا الوحدة الإسلامية الصحيحة التي يعنيها ويطلبها القرآن الكريم في قوله تعالى: (إنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)([5]). إن هذه التيارات التي نشير إليها نشأت كلها في الغرب. ونقطة البداية في نشوء هذه المذاهب الفكرية في أوربا. والفاصلة في تاريخها كانت في النهضة العلمية والفكرية التي تولدت باتصال أهل أوربا بالحضارة الإسلامية عن طريق الأندلس وترجمت كتب العلوم والفلسفة إليها. وكانت خسارة البشرية هنا بالضبط في أنهم أخذوا الجانب العقلي والمادي من حضارة المسلمين ولم يأخذوا الجانب العقائدي والروحي الخلقي. فقامت النهضة الأوربية على أساس الجانب المادي العقلي وحده وأهمل فيها الجانب الروحي من الإنسان وأهملت التعاليم الإلهية وما تضمنته من المثل العليا العظيمة والقيم الخلقية الرفيعة. وبقى الإنسان يخترع لنفسه عقائد وحقائق ومثلاً غير تلك التي جاءت بها النبوات وتعاليمها الإلهية. فاتخذ العقل - وهو بخلقته محدود أساساً - للحكم على الحقائق كلها الحسية منها والغيبية. وجعلت الحواس والتجربة المادية وسيلة وطريقاً للوصول إلى هذه الحقائق. فكان الإتجاه العقلي والمادي الطبيعي فقط. وأدى هذا الإتجاه الفكري المحض إلى حركة علمية عقلية. لا تصاحبها نهضة خلقية روحية. ثم أعقبت الحركة العلمية نهضة صناعية. مهدت لها الإكتشافات العلمية. وكان من نتائجها إتخاذ الرفاهية المادية وإشباع - الشهوات وتحقيق الملذات غاية للإنسان. من هنا بدأ الدين بمعتقداته وقيمه الخلقية وفضائله ينحسر شيئاً فشيئاً. وبدأ الخلل يزداد كلما تقدم الزمن. ثم حلت رابطة جديدة تربط أفراد الشعب الواحد بعضهم ببعض وهي رابطة إنتمائهم إلى وطن واحد. وأصبحت الوطنية رابطة عامة تجمع الأفراد. فنشأ في نطاق الوطنية المذهب العقلي في التفكير والمذهب الفردي في الإقتصاد وهو الذي اطلق فيما بعد المذهب الرأسمالي والنظام الديموقراطي القائم على الحرية السياسية الفردية المطلقة. كما نشأت فيها الإباحية في المجال الأخلاقي القائمة على الحرية التي لا تحدها كذلك حدود، والعلمانية أو فصل الدين عن الدولة واللادينية. لأنها قامت على الفراغ الديني وعلى إطلاق الحريات بلا حدود. ولم يبد النقص الكبير إلاّ بعد تجربة طويلة دامت أكثر من قرن ونصف، فظهر أن الحرية في المجال الأخلاقي انتهت إلى الفوضى والتهديم والإباحية. وانتهت الحرية المطلقة في الإقتصاد إلى ظلم الأغنياء للفقراء. وانتهت الحرية المطلقة في الفكر إلى تهديم الحقائق الدينية الخالدة. وانتهت الحرية السياسية إلى الأزمات المستمرة في الحكم وإلى أزمة النظام الديمقراطي نفسه. كما انتهت كذلك من الناحية التشريعية إلى تشريعات، تبيح الرذائل التي لم يبحها المتوحشون والابتدائيون في أبعد العهود عن المدنية. إن تيار المذهب العقلي المادي والمتمثل في مذهب الوطنية والمولد للنظام الديمقراطي والرأسمالي والعلماني تكشف عن نقائص فاضحة وانتهى إلى الصراع والإستعمار والظلم والرذيلة والإباحية والقلق والضياع. وقد كان هذا المذهب في وجوهه الفكرية والسياسية والإقتصادية والأخلاقية والتربوية، مقدمة المذاهب الفاسدة وأولها إتصالاً بالشعوب الإسلامية وتأثيراً فيها. وغزواً للطبقة المثقفة ولقادة السياسة في جميع البلاد الإسلامية. وذلك عن طريق انتقال الثقافة الفرنسية إلى الدول العثمانية وإلى مصر في عهد محمد علي، والمغرب. وعن طريق الثقافة الإنكليزية في الهند ومصر والسودان وغيرها. فقد غزا هذا التيار الشعوب الإسلامية التي كانت قد تردت في دركات التخلف بسبب تشويهها للإسلام وابتعادها عن كثير من تعاليمه وعن وعي أهدافه ومقاصده. فتسلل المذهب العقلي العلماني اللاديني والمادي إلى عقول الطبقة المثقفة والمذهب الوطني الديمقراطي إلى الطبقة - السياسية الحاكمة. وكانت النتجية إقصاء الإسلام وعزله عن توجيه الحياة الفكرية والثقافية. وإقصاؤه كذلك عن توجيه الحياة السياسية في مفاهيمها وقيمها وفي اتجاهاتها ومواقفها في الأحداث الداخلية والدولية وفي تشريعاتها ونظمها.. ولكن تم ذلك برفق ولطف. فبقى الدين تقاليد وعادات في الجمهور والعامة وبقى رقعة في التعليم الجزئي ومظاهر في المجال السياسي لمجاملة الجمهور في الحفلات والأعياد والمراسم. إن ذلك تم برفق ولطف، لا يشعر بخطره ولا بنتائجه كثير من المسلمين لأن معارضة هذا التيار للدين لم تكن ظاهرة، بل كانت محاولات التوفيق والتقريب. تنشر شعارات وعبارات تشعر بالقربى والتوافق بين هذا الإتجاه والإسلام. فشاعت عبارات مثل قولهم: «حب الوطن من الإيمان» و«الدين للّه والوطن للجميع» و«الإسلام دين الحرية». وغيرها. واستغلت هذه الشعارات أسوأ إستغلال لتحريف الكلم عن مواضعه وتغيير المفاهيم الإسلامية بطريق الإزاحة التدريجية لا بطريق المعارضة. وخفى على كثير من الخاصة خطورة نتائج هذه المرحلة فشارك فيها كثير من أصحاب النية الطيبة والعقيدة المؤمنة. ثم تطورت الفكرة الوطنية إلى الفكرة القومية، فانتقلت الرابطة في داخل بعض الشعوب من رابطة الإنتماء إلى الأرض الجامعة أو الوطن إلى رابطة العرق والجنس أو القوم. وحصل ذلك بدافع التنافس بين الشعوب الأوربية أو بعضها. تأثر الشعوب الإسلامية بالفلسفة القومية لاشك أن شعور الإنسان بالإنتماء إلى قومية شعور طبيعي فطري، وهذا الشعور يرتقي ويتهذب كلما تقدم الإنسان فتتسع دائرته ويسمو هدفه. وللأديان وتعاليمها الإلهية أثر كبير في ترقية هذا الشعور. ان الإسلام لا يدعو إلى إزالة القوميات باعتبارها أمراً بل واقعاً. بل إنّما يدعو إلى التعاون والوحدة بينها والإلتفات حول مبدأ يسمو فوقها جميعاً ويجمع بينها وهذا المبدأ هو وحدة الأصل البشري، والمساواة بين البشر على اختلاف قومياتهم. وهكذا يتم التنسيق بين القوميات دون إزالتها. فاللّه سبحانه وتعالى خلق. البشر وجعلهم شعوباً وقبائل وجعل من آياته اختلاف ألسنتهم. وليس اختلاف الألسنة واللغات إلا مظهراً من مظاهر إختلاف القوميات. بل إنهم جميعاً مشتركون في مدلول عام ينطبق عليهم. وعبّر عنه القرآن بلفظ (الناس) و(الإنسان) وجعل الخطاب دائراً حوله ومتوجهاً إليه. وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الفكرة أجمل وأعمق تعبير في وقوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم)([6]). إن تأثر المسلمين بالفكرة القومية وبروز الشعور القومي في حياتهم في العصر الحديث مرّ بمراحل متعددة واتخذ صيغاً وأشكالاً مختلفة، كان بعضها في الحدود التي لا يتعارض فيها مع الإسلام وبلغ بعضها الآخر درجة المزاحمة للإسلام. حيث تجعل من القومية عقيدة تتعارض مع الإسلام تعارضاً جذرياً. وكان لكل مرحلة ولكل صيغة اتخذها هذا الشعور أو الفكرة أسباب ودوافع طبيعية تارة، ومصطنعة تارة أخرى. 1- ففي أواخر العهد العثماني كان الإتصال بين الدولة العثمانية وألمانيا إتصالاً وثيقاً في المجال السياسي والتجاري والثقافي. ودرس في ألمانيا طلاب من الفرس والعرب والأتراك وغيرهم. وانتقلت الثقافة الألمانية عن هذا الطريق إلى المجتمع الإسلامي. وكانت الفلسفة القومية في ألمانيا ظاهرة عالية على ثقافتهم، فتأثر بهذه الفكرة عدد من مثقفي الأتراك، واتجهوا نحو تكوين الحركة القومية التركية، منسلخين بذلك عن التيار الإسلامي العام، وأخذوا ينظرون إلى الشعوب المجتمعة والمتعاونة معهم في إطار الدولة العثمانية القائمة من حيث المبدأ على الرابطة الإسلامية، نظرة السيد الحاكم المستعلي، لا نظرة الإخوة الإسلامية التي ابتعدوا عنها. وهؤلاء هم الذين تكونت منهم حركة تركيا الفتاة والإتحاد والترقي، وانتهى بهم الأمر إلى إلغاء الخلافة وإقصاء الإسلام واللغة والحروف العربية. وهي الحركة التي تزعمها فيما بعد مصطفى كمال وحزبه. 2- وجدت الدول الأوربية ولاسيما فرنسا وانكلترا وهما أقوى دول أوربا يومئذ من جهة والمكونتان لإمبراطورية استعمارية ينطوي تحت حكمها شعوب إسلامية كثيرة، وجدت هذه الدول في هذا الجو بالذات مجالاً لإضعاف الرابطة الإسلامية بين هذه الشعوب، بل لتهديمها وإزالتها نهائياً عن طريق إثارة العصبيات القومية. وقد ثبت أن فرنسا وإنكلترا دفعتا فكرة القوميات، ومنها فكرة القومية العربية دفعاً قوياً. ثم تبعتهما أمريكا في ذلك منذ أواخر العهد العثماني. 3- لقد كان للمحافل الماسونية والصهيونية في فرنسا وايطاليا أثر في تشجيع إنتشار هذه الفلسفة الجديدة في البلاد الإسلامية. فقد فتحت أبواب محافلها في المدن الأوربية لعقد الإجتماعات التي كان هدفها تقوية الشعور القومي في مقابل الشعور الإسلامي لإقامة المجتمع المقبل على أساس المبدأ القومي. فقد أخذت الفكرة القومية أشكالاً وصيغاً مختلفة. فكانت شعوراً طبيعياً في بداية الأمر لايتجاوز شعور الإنسان بإنتمائه إلى أسرة معينة أو قبيلة أو نسب. وهو في هذه الحدود أمر طبيعي لا يتعارض مع الشعور الإنساني ولا مع الأخلاق ولا مع العقيدة الدينية. ثم اشتد هذا الشعور في نطاق ظروف معينة. بدأت من رد الفعل عند العرب مثلاً تجاه العصبية التركية التي غذاها ملحدي الأتراك من جماعة حركة تركيا الفتاة والإتحاد والترقي. واستمرت واشتدت في عهد الإستعمار الفرنسي والإنكليزي لبعض البلاد الإسلامية العربية. واتخذ هذا الشعور حينئذ شكل مذهب أو خطة سياسية هدفها توحيد البلاد العربية وتحريرها. وكانت هذه الصيغة في الحقيقة تمهيداً لمرحلة ثالثة خطيرة وهي إتخاذ القومية عند أبناء الشعوب الإسلامية من عرب وأتراك وفرس وأكراد وبلوش وغيرهم مبدأ بل فلسفة بل عقيدة بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة. وليس الدين في نظر هذا الإتجاه إلاّ جزء من القومية - هذا إذا قبل - والقومية هي الفكرة الكلية الشاملة الأصلية. فكانت مهمته ليس فقط إقصاء الإسلام، بل تفريغ القضية السياسية والاجتماعية بوجه عام من المحتوى الإسلامي وإحلال فلسفة أخرى وعقيدة أخرى محل عقيدته واستبدال رابطة أخرى برابطته لعزل الشعوب الإسلامية بعضها عن بعض عزلاً نهائياً بحيث تكون صلة بعضها ببعض كصلتها بأي شعب من الشعوب الأخرى التي تدين بالوثنية أو الماركسية أو غيرها والتي لم تكن تربطها بها أي رابطة. بذلك تنسف الجسور التي تصل بين الشعوب الإسلامية ويلغي ذلك التاريخ الطويل وتمحي روابط الثقافة المشتركة ولغة الدين المشترك والقيم الخلقية المشتركة وتلغي بذلك تلك الإخوة الإسلامية. ولقد كان هذا التيار في خلال هذه الحقبة التي امتدت من أواخر العهد العثماني حتى عهدنا الحديث عاملاً للتفريغ ليمهد لفكرة وفلسفة اشتد ساعدها وقوى شأنها في العالم الغربي، لتحل بمفاهيمها وأفكارها محل الإسلام الذي اُقصِىَ أولاً ثم اُخْرِجَ محتواه ومضمونه من نطاق التفكير العام. وجاء بعد ذلك دور دول أخرى لتستفيد من هذا الظرف الجديد. سواء من جهة النفوذ السياسي أو الغزو الفكري العقائدي وهي الدول التي تدين بالماركسية. وقد كان لتسلل هذا التيار الماركسي إلى الشعوب الإسلامية وتأثيره فيها أسباب، نذكر أهمها: 1- الفراغ الذي أحدثه التياران السابقان - الديموقراطي الوطني والقومي - في المجتمع الإسلامي لدى أكثر الشعوب الإسلامية وذلك بالعمليتين اللتين وصفناهما سابقاً. عملية الإقصاء وعملية التفريغ. فإن الإسلام وقد اُبعِدَ أهلُه عن فهمه ووعي أهدافه ومقاصده بما ران عليهم من الجمود في عصور الإنحطاط وما أحدثوه من نقص وتشويه، كان غائباً عن الساحة في المجال الفكري الثقافي والمجال السياسي الإجتماعي. وكان الإسلام العظيم برسالته الحضارية الإنسانية قد انحصر في بعض الشعائر والمناسك وفي بعض العادات والتقاليد الدخيلة إحياناً وفي جزئيات صغيرة متفرقة. وأصبح أصحابه جماعات متعددة تتفرق مذاهباً وطرقاً. 2- أمر آخر كان له كذلك أثره. وهو مهارة الشيوعية العالمية ودولها في استغلال نفور الشعوب الإسلامية من دول الغرب المستعمرة ومذاهبها الفكرية ورغبتها في محاربة هذه الدول. فتقدمت في صورة الصديق المعين وقدمت مذاهبها بدلاً عن تلك المذاهب التي نفر الناس من أصحابها. 3- أضف إلى ذلك كله مهارة الدعاية ووسائلها المدروسة المخطط لها، التي استطاعت احياناً أن تخفي كثيراً من الحقائق والوقائع وأن تنشر كثيراً من المغالطات. فكان من أهم نتائج سريان هذا التيار وأهدافه: 1- فك ارتباط الشعوب الإسلامية بعضها ببعض وذلك بفك ارتباطها بالإسلام. ثم رَبطُ كل منها على انفراده بمجموعة الشعوب الشيوعية الماركسية. وبذلك تنتقل بعض الشعوب الإسلامية من التبعية للغرب ثقافةً وسياسةً إلى التبعية للعالم الشيوعي. بدلاً من أن تلتقي مع نفسها على صعيد الثقافة والعقيدة الإسلامية إلتقاءً متحرراً من كل تبعية. وتتعاون في هذا الإطار على تكوين حضارة، تحتفظ فيها بذاتيتها وتقدم للإنسانية حضارة جديدة تحفظ للإنسان كرامته وتكفل له سعادته مع رقيه المادي. 2- محاربة الإسلام باعتباره ديناً وعقيدة وأخلاقاً وتشريعاً وإحلال الفلسفة الماركسية ومفاهيمها محله. ويكون ذلك عادة على مراحل يبدأ أولها من إصلاح الظلم الإجتماعي عن طريق النظام الماركسي الإشتراكي، ثم محاربة الاستعمار والتوسع الإستعماري المسمى بالامبريالية. ويسكت في هذه المرحلة عن الدين في المجتمعات التي تتمسك به. بل يقال احياناً لا تعارض بين المذهبين. مع الكلام عن إستغلال الدين وأضراره. ليتم الإنتقال إلى محاربة الدين جذريّاً في أصوله الإعتقادية. يتبين لنا مما سبق أن تيارات عالمية ثلاثة غزت العالم الإسلامي منذ نحو من قرنين غزوا مستمراً واجتمعت علينا كذلك دول العالم الحديث الكبرى كلها للإحاطة بنا وفك روابطنا وإفناء ذاتيتنا وتقويض كياننا وهدم عقيدتنا. وعلينا أن نعلم ونتيقن أن هذا الغزو العقائدي للعالم الإسلامي من قبل العالم الغربي مستمر. وأن تحرّر بعض البلاد الإسلامية من الإستعمار الظاهري والخارجي لايعني أبداً توقف هذا الغزو. إن جهود هذه الدول المستعمرة جهود مرّكزة مستمرة تنشر ثقافتها ومذاهبها عن طريق المدارس والمعاهد والجامعات والمؤسسات والبعثات الثقافية. وعن طريق إمدادنا بالبرامج والمناهج. خاصة في المواد النظرية. وبالكتب والمجلات وعن طريق الملحقين الثقافيين والمراكز الثقافية، وعن طريق أبناء المسلمين الذين رضعوا جيلاً بعد جيل لبان هذه الثقافات بمذاهبها وتياراتها. وعن طريق جميع وسائل الإعلام والدعاية والصحف. إن الخطر محدق بالمسلمين من كل صوب لتحطيم إسلامهم. هذا عدا عن الخطر الأخلاقي والخطر السياسي وما يتبعهما. فماذا صنع المسلمون لصد هذا الخطر الكبير وماذا هم فاعلون؟ وأكتفي بهذا القدر في هذا القسم. والآن نرجع إلى القسم الثالث: القسم الثالث - أسس الوحدة الإسلامية: إن الأمة الإسلامية تملك أسساً مشتركة تستطيع بها أن تجمع شتاتها وتوحد كلمتها وتعالج أمراضها. فهي أمة واحدة ذات دين واحد وكتاب واحد ورسول واحد. هذه هي الأصول الثابتة التي تشترك فيها الأمة. فاذا ما أدركتها جيداً والتزمت بمقتضياتها، فإن ذلك يجعل منهم أمة واحدة تلتقي على: وحدة الغاية ووحدة العقيدة ووحدة المنهج. فهذه الأسس التي تجتمع عليها الأمة وتكوّن عليه الوحدة الإسلامية الشاملة. وأيّ خلل أو نقص فيها فإن ذلك يؤدي إلى استمرار الواقع المؤلم. واقع التفرق والتمزق. وفيما يلي نبين بايجاز تلك الأسس: أولاً - وحدة الغاية: إن لهذا الإنسان الذي يعيش على ظهر الأرض غاية يؤديها في وجوده. فاذا عرفها وتمثلها في حياته فانه يسعد في الدنيا والآخرة. وإذا جهلها وأعرض عنها فإنه يشقى في الدنيا والآخرة. هذه الغاية هي العبادة للّه عزوجل والقيام بدور الخلافة الصحيح في الأرض. كما قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)([7]). فهذه هي الغاية. والمسلمون وللّه الحمد قد أدركوا هذه الغاية التي حرمها كثير من الشعوب فضلوا وشقوا. وذلك ظاهر لكل متأمل في أحوالهم وشؤونهم. وإن ملكوا وسائل الإنتاج واكتشفوا كثيراً من القوانين المادية. فان ذلك لم يخفف من وطأة الشقاء النفسي لتلك المجتمعات. ولكن المسلمين رغم إدراكهم لهذه الحقيقة فإنهم قد أفرطوا فيها وأعرضوا عن تحقيقها. فكان ذلك سببا في شقائهم وضعفهم وتسلط عدوهم عليهم. فلابد من العودة الصادقة إلى تحقيق هذه الغاية والإلتزام بمقتضياتها. لنحقق لأنفسنا السعادة في الدنيا والآخرة. وتحقيق هذه الغاية «العبودية للّه عزوجل» سيكون سبباً من أسباب الوحدة للأمة. فإنه إذا توحدت غايات الشعوب المسلمة وغايات القيادات المسلمة، فإنه ولاشك ستتحد الآمال والأهداف التي تجمع الأمة. ولكنه إذا تعددت الغايات وكان لكل بلد من البلدان الإسلامية غاية أو غايات أخرى كلها من صنع البشر.. فارتبطت بشهواتها وأطماعها العاجلة. فإن ذلك لا يقطعها عن العالم الإسلامي فحسب، بل يقطع صلتها بالله عزوجل وانتسابها إلى الإسلام. لأن الإسلام يحدد للإنسان غايته في هذه الحياة. فإن التزمها الإنسان في حياته صحت نسبته إلى الإسلام. وإن أعرض عنها فقد قطع صلته بهذا الدين. ولولم تضعف هذه الحقيقة في نفوس المسلمين لما حدثت الإنقسامات بينهم ولما استطاع أعداء الإسلام أن يجدوا رواجاً لأفكارهم الضالة في بلدان المسلمين. لأن الإسلام نور وغيره ظلام. ومن كان في النور فإنه لا يرضى بالظلام بديلاً. قالى تعالى: (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ومن لم يجعل اللّه له نوراً فماله من نور)([8]). ثانياً - وحدة العقيدة: فهي الوحدة المعنوية التي تقابل الوحدة الحسية. لأن العقيدة عمل القلب، لاعلاقة لها بالجنس ولا باللون ولا بالمكان ولا بالزمان. فيرتبط فيها جميع أبناء المعتقد الإسلامي بما يدعو إليه الكتاب والسنة. فيرتبط آخر الأمة بأولها بل صالح هذه الأمة بصلحاء الأمم قبلنا. لقد تعرضت العقيدة الإسلامية في كثير من البلدان الإسلامية وعلى مدار التاريخ إلى انحرافات خطيرة وتصورات خاطئة شوّهت جمال العقيدة وأوجدت في الأمة الواحدة مذاهب متعددة وطوائف متفرقة لكل منها أتباع وأنصار.. وما ذلك إلا لإنتشار الجهل في صفوفهم. لهذا فإنه لابد من إعادة النظر في ذلك الإنحراف وتصحيحه بما يوافق الكتاب والسنة. ليتيسر للأمة الإجتماع والوحدة. فإن العقيدة هي الأساس الذي يرتفع عليه بناء الدين. فإذا قوى الأساس وخلص من الإنحراف سهل على الأمة تصحيح بقية الإنحرافات الأخرى وأمكن لها الإجتماع والوحدة واللقاء والتضامن... ثالثاً- وحدة القيادة: لقد شاء اللّه عزوجل أن يكون الإسلام آخر الرسالات السماوية إلى الأرض.. وأن يكون سيدنا محمد بن عبد اللّه عليه الصلاة والسلام آخر الرسل. فيه أكمل اللّه الدين وبه ختم المرسلين. فلا دين بعد دينه ولا نبي بعده (صلى الله عليه وآله). فالإسلام هو الدين الذي رضيه اللّه لنا دينا نتعبد به ونلتزم بشريعته. والرسول(صلى الله عليه وآله) هو القائد الذي يجب أن نسير خلفه ونقتفي أثره. وكل قيادة أخرى تحاول أن تلغي هذه القيادة أو تقلل منها فإنها قيادة خارجة عن الإسلام محاربة له... بل كل قيادة تتمرد هي في ذات نفسها عن هذه القيادة. أو تنحرف عن متابعتها فهي قيادة منحرفة. هذه حقيقة ينبغي أن تتضح في أذهان المسلمين. إذ بقدر وضوحها وإلتزامهم بها يتيسر للأمة الاجتماع والإتحاد. وبقدر جهلها أو تجاهلها يتعذر اللقاء والوحدة. فإن إدراك الأمة لهذه الحقيقة يعني «توحيد القيادة» فالجميع يلتقون على قيادة واحدة، بها يتأسون وعلى خطاها يسيرون. فمنها يتلقون التوجيهات ومنها يعرفون الأحكام والعبادات.. فالحلال ما أخبر بحله والحرام ما نهى عنه.. والخير مادل عليه... والشر ما حذر منه. (وما آتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا)([9]). فليس هناك قيادة أخرى لها هذا الحق ولا بعضه وإنّما تأتي لها الحقوق بمقدار متابعتها لهذه القيادة. رابعاً - وحدة المنهج: من الأسباب الرئيسية لتمزيق الأمة الإسلامية تعدد المناهج التي تتبعها في مجتمعاتها.. تلك المناهج التي لا صلة لها بها ولا علاقة لها بدينها. بل هي مضادة لدينها محاربة لعقيدتها.. فكان من نتائج ذلك أن اختلفت الأمة وتعددت مناهجها. فوقعت الفجوة بين المناهج والواقع. وبين القيادات والشعوب.. بل بين القيادات نفسها. فانعكست تلك الخلافات على الأمة الإسلامية. وما لم يتحد المنهج للأمة الإسلامية فيكون منهجاً واحداً كما يقتضيه دينه، فإن كل محاولة لوحدة الأمة أو لجمع شتاتها، فإنها محاولة خاسرة في نظري. وهذا المنهج الذي يجب إتباعه ليس له إلا مصدر واحد وهو اللّه سبحانه وتعالى. فهو الذي يضعه لخلقه ويحدده. والبشر عبيده وخلقه. لا يجوز لهم أن يختاروا أو يرفضوا وإلا فإن ذلك يعرضهم لمقته وسخطه. وقال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)([10]). هذا هو حال المسلم مع شريعة ربه ومنهاجه فاذا اتضحت هذه الحقيقة في أذهان المسلمين وتمثلوها في واقعهم، فإنه يتيسر لهم الوحدة والعزة. ولكي نحدد معالم هذا المنهج نعود إلى مدلول الوحدة الإسلامية والتضامن والتعاون. والغرض منها وهو أن يجد الإنسان فرداً كان أو جماعة، ما يضمن له حياة أفضل وأعز وأشرف، يتوفر له فيها ما ينقصه، ويسلم فيها مما يضره. ومعلوم أن هذين المطلبين: جلب النفع ودفع الضرر، هما مطلب كل عاقل وهما الغرض الحقيقي من الوحدة الإسلامية بين الأمة المحمدية. ومنهج الإسلام شامل لهذين المطلبين ومعهما الحث على مكارم الأخلاق وهو مطلب إنساني كما قال أكثم بن صيفي حين بلغه أمر ظهور دعوة الإسلام. فأرسل ولده ليأتيه بخبر محمد(صلى الله عليه وآله) وما يدعوا إليه. فرجع إليه وقال له: إنه يأمر بصلة الرحم وصدق الكلم وأداء الأمانة والوفاء بالعهد. وينهى عن كذا وكذا.. فقال أكثم: إنه واللّه يا بني ان لم يكن دينا فهو من مكارم الأخلاق. وقد شرع الإسلام عقود المعاملات لجلب النفع وتبادل المصالح لتوفير حاجيات الإنسان من مطعم وملبس ومسكن في صناعة وزراعة وتجارة. كما شرع لدفع الضرر تحريم كل ضار بجواهر الحياة الخمسة: الدين، النفس، العقل، النسب والعرض والمال. وجعل فيها حدوداً رادعة وزاجرة. كما أرشد ووجه لمكارم الأخلاق في الروابط الإجتماعية ابتداء من حقوق الزوجين وبر الوالدين. وحسن المعاشرة من العفو عن المسيء والإحسان والإيثار على النفس وغير ذلك. وكذلك روابط الجوار وصلة الأرحام وكفالة الأيتام ومساعدة الضعفاء وعموم التعاون على البر والتقوى. وتظهر صور الوحدة في منهج الإسلام مفصلة ابتداء من العقيدة السليمة ثم العبادات التي هي الهدف والغاية من خلق الجن والإنس. فجميع المسلمين يلتقون على عبادة اللّه وحده وبالوجه الذي يرضاه. وهذا المنهج قد ربط بين جميع الأمم الإسلامية كما قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه)([11]). فهي وحدة دينية تربط الحق بالخلق في إطار التشريع الإسلامي. كما قال تعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن اللّه اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون)([12]). وعقيدة التوحيد هي المرتكز والتي يجتمع عليها العرب والعجم ويستوي فيها الغني والفقير والكبير والصغير ويلتقي عليها من بالمشرق بمن في المغرب. وهي العقيدة التي تحرر الإنسان من إستعباد الإنسان ومن طغيان المادة وعوامل الطغيان. لأن الفرد بـإحساسه بأن جميع الخلائق عباد الله ملتزمون بأوامر اللّه. وفي العبادات تتجلى هذه الصور عملياً بصور ملموسة وذلك كالآتي: 1- ففي الصلاة: أ - وحدة التوقيت مرتبطة بحركة كونية من طلوع الشمس إلى غروبها. ب - واستجابة النداء: حي على الصلاة. حي على الفلاح، اللّه أكبر. جـ - وحدة الوجهة إلى مركز العالم كله إلى البيت الحرام. (فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره)([13]). تبدأ هذه الوحدة في استدارة حول الكعبة ثم تتسع حتى تشمل أقطار العالم شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً. 2- وفي الصيام: أ - وحدة الزمن في الصوم بشهر واحد للجميع (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه...)([14]). ب - وحدة الشعور بالتعاطف والتراحم: يبدأ بالإمساك وينتهي بالإطعام وإخراج الفطرة طعاماً للمساكين وطهارةً للصائمين. 3- أما الزكاة: أ - فهي وحدة إلزامية تربط مختلف الطبقات بعضها ببعض وتقارب بين من باعدت بينهم المادة وتجمع بين من فرق بينهم الغنى والفقر. حيث يلتزم الغني بإخراج زكاة ماله (في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم)([15]). وقال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم...)([16]). فالزكاة تصون المجتمع من حرب الطبقات وغزو الدعايات. 4- أما الحج: فهو عين التضامن ومظهر الوحدة في أظهر الصور وأقوى المعاني يفد الحجيج من كل فج عميق ملبين الداعي لحج بيت اللّه العتيق. أ - يخرج الحاج من أهله ودياره مفارقاً زوجه وصغاره حتى يأتي الميقات فيتجرد ثيابه متخلياً عن مظاهر دنياه متدثرا رداءه وإزاره متهيأ لحال أخراه. هناك يعود الحجيج على مختلف ألوانهم وتباعد أقطارهم وتعدد لغاتهم يعودون إلى الفطرة التي فطرهم اللّه عليها وتعود إليهم فطرتهم التي ابتعدوا عنها فطرة الوحدة والإخاء والمساواة. فيستوي غنيهم وفقيرهم وأميرهم ومأمورهم. ويستوي عربيهم وعجميهم وقاصيهم ودانيهم وحدة في الشكل والصورة ووحدة في الهدف والغاية يهتفون: لبيك اللهم لبيك. . ب - وفي أرض عرفات في ذلك المشهد الفريد في تاريخ البشرية حاضرها وماضيها. مشهد يذكر بالماضي في عالم الذر حين أخرج اللّه من بني آدم من ظهورهم ذريتهم (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى). مشهد ينبّههم لمستقبلهم يوم يجمع الله الخلائق ويحشرهم حفاة عراة. مشهد تذوب فيه فوارق الجنس والعنصر واللون وتتجلى فيه وحدة الأصل «كلكم من آدم وآدم من تراب»([17]). مشهد تفتح له حدود الأقاليم والأقطار والدول (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق)([18]). ج - وفي منى يلتقي الجميع على موائد الهدى والإخلاص فيأكلون ويطعمون. (فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر...)([19]). فيرجع الحجاج إلى بلادهم وقد تعارف كل منهم على الكثيرين من إخوانهم ووثقوا عرى الأخوة والولاء. الإجتماعيات: كما ظهر مدى الوحدة والإتحاد في العبادات، يظهر كذلك وبقوة في مجال الإجتماعيات، لأن الإسلام أقام المجتمع الإسلامي على قواعد مثالية عليا ترتفع عن مقاييس المادة والمعاوضة إلى حد البذل والإيثار. أ- ففي أصل تكوين المجتمع توجد المساواة والإتحاد في المبدأ (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا...)([20]) . ففيها وحدة الإنسانية جمعاء. ب - وفي تكوين الأسرة التي هي لبنة بناء المجتمع. أقامها على روابط المودة والرحمة والوحدة. ج - ثم يفسح المجال خارج نطاق الأسرة. فيأتي للجوار فيقول (صلى الله عليه وآله): «لايزال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»([21]). د - ثم يربط العالم كله برباط النصح والإخلاص ومحبة الخير. قال (صلى الله عليه وآله): «الدين النصيحة. قلنا لمن يارسول اللّه؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»([22]). هـ - فتكون النتيجة ترابط العالم الإسلامي كالبناء الحصين. قال (صلى الله عليه وآله): «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»([23]). وقال عليه الصلاة والسلام: «المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا».([24])فأي وحدة بعد هذا وأيّ تضامن بعد هذا. ومن هنا حمل الإسلام جماعة المسلمين مسؤولية الحفاظ على تلك الوحدة في السلم وفي الحرب. أفراداً أو جماعات. (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر اللّه...)([25]). وقال (صلى الله عليه وآله): «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»([26]). وقال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)([27]). وفرض حقوقاً عامة على كل مسلم لأخيه المسلم. قال عليه الصلاة والسلام: حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه. وإذا دعاك فأجبه وإذا عطس فحمد اللّه فشمته وإذا استنصحك فانصح له وإذا مرض فعده وإذا مات فشيعه»([28]). وتلك حقوق متبادلة بين الأفراد يتقاضونها فيما بينهم وقد استوعبت كامل وضع الإنسان من أول لقائه بالسلام عليه إلى آخر ودعاه بالتشييع إلى مثواه الأخير. ربط الإيمان بالمحبة والمودة والعاطفة والرحمة بينهم، قال (صلى الله عليه وآله): «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»([29]). وحرم الجنة عليه حتى تسودهم المحبة. قال عليه الصلاة والسلام: «لن تدخلوا الجنة حتى تحابوا...»([30]). منهج الحكم في السلطات الثلاثة: 1- السلطة التشريعية. 2- السلطة القضائية. 3- السلطة التنفيذية. وهذه السلطات الثلاثة وإن كانت بصورها موجودة في كل دولة. إلا أنها في الإسلام تتميز بصبغة خاصة. فالسلطة التشريعية في كل أمة هيئة متخصصة. تنظر في ظروف وملابسات حياة الأمة فتشرع لها ما تراه صالحاً. ومهما يكن من شأن هذه الهيئة وتخصصاتها فهو عمل بشري جائز عليه الخطأ والصواب. وهو ما يشهده العالم من طروء التغيير والتبديل. فقد يكون ما رأوه اليوم حسناً، يكون غير صالح في الغد. وأن ما يطرأ على تلك الهيئات من سياسة داخلية واتجاهات فكرية قد تؤثر عليها إلى غير ذلك. بينما التشريع في منهج الحكم الإسلامي مرجعه للّه تعالى ولرسوله (صلى الله عليه وآله). والمختصون للتشريع بعد رسول اللّه عليه الصلاة والسلام هم العلماء ورثة الأنبياء فانهم لن يخرجوا عن المنهج الإسلامي في حدود ما أنزل اللّه من كتابه وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله). وقد نوّه القرآن الكريم إلى أصل هذه السلطات وإلى تميزها عما سواها في قوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد....)([31]). والسلطة القضائية: ليقوم الناس بالقسط. إذ القضاء تطبيق للمنهج التشريعي. «وأنزلنا الحديد» إشارة إلى السلطة التنفيذية وأداة لنصرة دين اللّه. فيكون المجتمع الإسلامي تحت سلطة حكم عادلة قوية حكيمة. وأساس الحكم في البشر إنّما هو اللّه خالقهم لاسواه وهو أعلم بمصالحهم وما يصلحهم. فهو كالعبادة سواء في قوله تعالى: (إن الحكم إلا للّه أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم...)([32]). ومن هذا المنطلق في الحكم كان الظلم في غيره محققاً في أي حكم سوى حكم اللّه. (ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظالمون)([33]). وأخيراً أقول: مالم يتحد المنهج للأمة الإسلامية فيكون منهجاً واحداً كما يقتضيه دينها فان كل محاولة لوحدة الأمة أو لجمع شتاتها فإنها محاولة خاسرة. القسم الرابع - وسائل تحقيق الوحدة: عرضنا في المبحث السابق الأسس التي لابد منها لتوحيد الأمة الإسلامية وأنها شرط في تحقيق وحدة الأمة وإجتماع كلمتها. ولكن مع الأسف هذه الأسس قد تعرضت للفساد والإنحراف - كما أشرنا - واختفت أو تشوهت في كثير من المجتمعات الإسلامية. فكان لابد من إظهار ما اختفى منها وتصحيح ما تشوّه. وهذا أمر يحتاج إلى وسائل متعددة للقيام بذلك الدور ورعايته وعلاجه في المجتمعات الإسلامية. ومن تلك الوسائل ما يأتي: 1- التعليم الموجّه: لاشك أن المؤسسات التعليمية من أهم الوسائل الموجهة في المجتمع.. إذن يجب التخطيط لنشر الإسلام كمذهب عقائدي متميز. تتفرع عنه أنظمته الإجتماعية والخلقية في جميع مواد التعليم. وخاصة في العلوم النظرية كالفلسفة والإجتماع والتربية وعلم النفس والحقوق والآداب وفي جميع مستويات التعليم. وتأسيس مراكز بحث خاصة للتخطيط. ولابد من إعادة صياغة المناهج في مدارس المسلمين وجامعاتهم. بحيث يراعى في وضعها تلك الأسس التي تمثل قاعدة الوحدة الإسلامية. فتشتمل المناهج على بيان العقيدة والغاية والقيادة والمنهج. ولابد من صياغة العقائد والمبادئ الإسلامية صياغة قوية مركزة مستمدة من الكتاب والسنة، تتناسب في طريقتها وأسلوبها مع البيئة الفكرية المعاصرة. دون أيّ تغيير في المحتوى والمضمون. لتقف هذه الصياغة أمام المذاهب العقائدية الحديثة. وعدم الإكتفاء مطلقاً بكتب ألفت لغير هذا العصر. كما يجب عدم إثارة معارك جانبية وجزئية بين المسلمين المثقفين على أصول الإسلام وعقائده. والعناية بالكليات من العقائد والأنظمة أكثر من الجزئيات كما يجب عدم إثارة تعصبات مذهبية، التي منشأها الجهل وعدم المعرفة الصحيحة بكتاب اللّه وسنة رسول(صلى الله عليه وآله). ويجب تعمق هذه المعاني في نفوس أبناء الأمة ويبين لهم أن هذه الأسس هي التي يكون الإنسان بها مسلما. ويكون بها المجتمع جزء من الأمة الإسلامية وبهذا تتهيأ للمسلمين أسباب الوحدة والإجتماع، والقوة أمام أعدائهم أجمعين. وإلى جانب هذا البناء الإيماني للفرد المسلم يبين كذلك فساد المذاهب البشرية التي تسود كثيراً من المجتمعات البشرية اليوم وأنها مذاهب ضالة باطلة لاحق لها في الوجود ولا في البقاء. كما يبين كذلك انتهاء دور الديانات السماوية الأخرى التي كانت قبل الإسلام وأنها قد نسخت بالإسلام كما أنها قد تعرضت للفساد والتحريف.. فهي لا تمثل الدين الذي أنزله الله تعالى. وهذا البيان هو بمثابة الصيانة والحماية لتلك الأسس الإسلامية. ثانياً - الإعلام الملتزم: لقد أصبح للإعلام في العصر الحاضر بكل وسائله المسموعة والمرئية والمقروءة دور خطير في الحياة الإنسانية. فهو يقتحم كل بيت ويصل إلى كل إنسان. فلذا يجب إتخاذ جميع وسائل الإعلام المعروفة، وسيلة تنفذ هذا التخطيط والتبشير به والدعوة إليه. وإعتبار وزارات ودوائر الإعلام مراكز عقائدية أساسية لايدخل فيها إلا كل من تحقق فيه الإيمان الكامل العميق بالمبدأ الإسلامي والوعي العميق والثقافة المناسبة لذلك. ومعلوم أن وسائل الإعلام اليوم في كثير من البلدان الإسلامية غير ملتزمة بالمنهج الإسلامي الذي يبث الخير وينشر الفضيلة ويحذر من الشر والأخلاق الرذيلة. بل إن بعض تلك الوسائل تحارب الإسلام وتسئ إلى أهله بما تنشره من البرامج السيئة والحلقات المنحرفة. وهذا كله مضار لدين الأمة ومفرقة لجمعها وهادم لأسس الوحدة التي تقوم عليها. فلابد إذن من إعادة البناء الإعلامي بناءاً صحيحاً بحيث يكون قادراً على توجيه الأمة وتعميق العقيدة في نفوسها وتذكيرها بخاصيتها في هذه الحياة والمنهج الذي اختاره اللّه عزوجل لها، كما تبين إلى جانب ذلك وحدة القيادة للأمة الإسلامية وأنه لم يعد هناك مجال لظهور قيادات أخرى تنازع القيادة المحمدية (صلى الله عليه وآله) أو تزاحمها. فاذا استطاع الإعلام في البلدان الإسلامية أن يبث هذه القضايا الأساسية في نفوس الأمة فإنه عندئذ يكون قد أدى دوره الصحيح في المجتمع وساهم في وحدة الأمة.. ثالثاً - الإقتصاد المستقل: إن التشابك المعقد في العلاقات الدولية - اليوم - واختلاف الأنظمة الإقتصادية في العالم والذي انعكس أثره على اكثر المجتمعات الإسلامية فتعددت فيها الأنظمة الإقتصادية تبعاً للإتجاه الذي يغلب على كل بلد - كان له آثاره السلبية على وحدة الأمة الإسلامية. ومحاولة عودة الأمة إلى الوحدة والتضامن يلزم منه التحرر من تلك الأنظمة الدخيلة على المجتمعات الإسلامية بالعودة إلى النظام الإقتصادي الإسلامي الذي هو جزء من ذلك المنهج الشامل الكامل الذي هو جزء من دين الأمة لا يتم بل لا يوجد بدونه والذي هو أحد الأسس التي تلتقي عليها الأمة. ولابد من إيجاد اقتصاد إسلامي مستقل ليس مرتبطاً بأي نظام آخر. لئلا يبقى بين الأمة فجوات تحول دون وحدتهم. ويتم ذلك بايجاد أسواق مشتركة وعملة موحدة وهيئة إقتصادية مشتركة تشرف على ذلك الإقتصاد الإسلامي المستقل. وبهذا تستقل عن التبعية الإقتصادية الضارة وتقيم لها وحدة اقتصادية قوية على أسس إسلامية. والإقتصاد في الحقيقة هو ضمن المنهج الإسلامي الذي يعتبر أحد الأسس للوحدة الإسلامية والذي نريده هنا هو التعاون العام وتوحيد الأسواق والعملات الذي يعطي للأمة شخصيتها المستقلة ويمهد السبيل للوحدة واللقاء. رابعاً - إيجاد مراكز علمية: لما كانت هذه الوسائل المتقدم ذكرها لابد لها من إعداد وتخطيط بحيث تظهر الصورة الصحيحة كان لابد من مراكز علمية مختلفة تكون مهمتها التخطيط الدقيق لتلك الجوانب إلى جوانب أخرى تتعلق بحياة الأمة. فتلك المراكز متعددة الأغراض تمثل الهيئة الإستشارية والمخططة لتوحيد الأمة وتكاملها ونموها في جميع الجوانب بحيث تتحد الأمة في كل المظاهر إلى جانب وحدتها في القواعد. الخاتمة: وفي نهاية هذا البحث الموجز، أذكر أهم القضايا التي اشتمل عليها هذا البحث وهي: 1- إن واقع الأمة واقع مؤلم جداً قد تخلله الفساد وسرى فيه الإنحراف. 2- وأن هذا الواقع المنحرف لا يمكن معه الوحدة واللقاء. 3- وأن وحدة الأمة لا تتم إلا بتصحيح هذا الواقع على ضوء الكتاب والسنة واللّه سبحانه وتعالى هو القادر أن يصلح الأمة الإسلامية وأن يجمع كلمتها على الحق وأن يوحد بين صفوفها ويؤلف بين قلوبها وأن يخرجها من الظلمات إلى النور وأن يهئ للأمة الإسلامية قائداً ربانياً يحكم بكتاب اللّه وسنة رسوله(صلى الله عليه وآله) ويعمل به. لا يخضع للبيت الأبيض ولا للبيت الأحمر وإنّما قلبه إلى البيت العتيق ويكون شعاره الوحيد: أبي الإسلام لا أب لي سواه *** إذا افتخروا بقيس أو تميم ويكون مهمته الفريدة الجهاد في سبيل اللّه وينادي: ولست أبالي حين أقتل مسلماً *** على أي جنب كان في الله مصرعي إنه ولى ذلك والقادر عليه وهو السميع المجيب. والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته. -------------------------------------------------------------------------------- [1]- آل عمران / 110 . [2]- الانفال / 46 . [3]- آل عمران / 103 . [4]- رواه مالك في الموطأ باب النهي عن القول بالقدر. والحاكم في المستدرك: 1/93 . [5]- الانبياء / 92 . [6]- الحجرات / 13 . [7]- الذاريات / 56 . [8]- الأنعام / 122 . [9]- الحشر / 7 . [10]-الاحزاب / 36 . [11]- الشورى / 13 . [12]- البقرة/ 132 . [13]- البقرة/ 150 . [14]- البقرة/ 185 . [15]- المعارج / 25 . [16]- التوبة / 103 . [17]- رواه الترمذي في تفسير سورة الحجرات وابو داود في الأدب رقم 111 وأحمد في مسنده: 3/361 و 526. [18]- الحج / 27 . [19]- الحج / 36 . [20]- الحجرات / 13 . [21]- رواه البخاري في الأدب: 8/12 باب الوصية بالجار ومسلم في: البر حديث 2634 - باب الوصية بالجار وأبو داود في الأدب حديث رقم 5151. [22]- رواه البخاري في صحيحه في كتاب الايمان برقم 43 ومسلم في كتاب الإيمان رقم 95 وأبو داود في كتاب الأدب رقم 59 والترمذي في كتاب البر رقم 17. وغيره. [23]- رواه البخاري في الأدب رقم 27 ومسلم في البر رقم 66 وأحمد في مسنده: 4/270 . [24]- رواه البخاري في الصلاة رقم 88 وفي مظالم رقم 5. ورواه مسلم في البر رقم 65. والترمذي في البر رقم 18 - والنسائي في الزكاة 67. [25]- الحجرات / 9 . [26]- رواه مسلم في كتاب الايمان رقم 78. والترمذي الجنائز رقم 32 ورواه مسلم في الإمارة رقم 30. وأبو داود في الإمارة رقم 1 وغيره. [27]- المائدة / 2 . [28]- رواه البخاري في الجنائز 3 ورواه مسلم في السلام 4 - 6 - وابن ماجه في الجنائز 1 . [29]- رواه البخاري في الإيمان: 7. والترمذي بمعناه في الزهد 2 . [30]- الحديث. رواه. [31]- الحديد / 25 . [32]- يوسف / 40 . [33]- المائدة / 45 .