الوحدة وأولويات المنهج الإسلامي الأستاذ ماجد سعيد باحث وكاتب عراقي ساكن في مدينة قم المقدسة بسم الله الر حمن الرحيم إنّ قضية الوحدة والاتحاد على درجة كبيرة من الأهمية في سلّم الأولويات في منهج الإسلام منذ نزول الرسالة على البشر، فقضية الإسلام الأولى لم تكن مجرّد إصدار الأوامر والنواهي من دون إيجاد وترتيب العوامل المساعدة على تثبيت تلك الأوامر والنواهي في نفوس المسلمين، وفرضها - وبالتالي - على الجبهات المعادية وغير المعادية، ممّا استدعى في كثير من الأوقات إلى مواجهات شرسة مع تلك الجبهات عبر التاريخ. فكانت المعارك في مواجهة الوثنية والشرك، والعمل على تحطيم رموزها ودكّ أركانها. وكانت المعارك في مواجهة أشكال العبودية لغير اللّه سبحانه، وما استهدفته من تحرير الإنسان وردّ كرامته إليه، باعتباره مخلوق اللّه المختار، وخليفته في إدارة الأرض وعمارتها. وكانت المعارك في مواجهة أهل الكتاب، والتصدّي لما أحدثوه من جنايات وثغرات خطيرة في جبهة الإسلام وعلى كافة الأصعدة، ممّا كان يشكّل الخطر العظيم على مستقبل الرسالة السمحاء. وكانت الحروب والمصادمات مع جبهات النفاق التي ما فتأت تخلق الشرخ بعد الشرخ في جدار الجبهة الداخلية للإسلام، فكان لابد من المواجهة والحيلولة دون وقوع مثل هذا الشرخ الذي فيما لو كتب له الحدوث لأحدث انقلاباً خطيراً في الموازين، وكان له الأثر السلبي على مستقبل الرسالة العظيمة. كما وكانت المداهمات ضد رموز البدع والضلالة، وما حاولوا أن يوجدوا وضعاً سلبياً لا يخلو من خطر على العقيدة الإسلامية التي هي حجر الأساس الذي بنى الإسلام بناءه عليه، فكان لابدّ من مواجهة تلك الرموز واسقاطها عن مسرح الحياة وللأبد. وكانت الحروب الطاحنة الدفاعية أمام الحملات الشرسة التي تشنّها جيوش الكفر والإلحاد بين الحين والآخر، والتصدّي للسيل الهادر من عدوان كتائب الاستكبار العالمي على جميع جبهات الإسلام، ومنعه من دخول حصن الإسلام العزيز، والحيلولة دون الوصول إلى مآربه التي لو قدّر له الوصول إليها لكان له الأثر الفادح على صرح الرسالة المحمدية الغرّاء. إذن هي معارك مستمرة، وخصوم متعدّدة وشرسة للإسلام وأهله، منذ نزول الرسالة والى الأبد، ومن هنا كانت الأهمية كبيرة في ترتيب الأولويات في منهجية الإسلام، والأهمية أكبر في إيجاد العوامل المساعدة على تثبيت تلك الأولويات في منهجيّته، والأهمية تصبح أعظم في خلق «المناخ» المناسب لعمليات الترتيب والإيجاد والتثبيت. فاذا كانت قضيتنا هي مستقبل الإسلام والمسلمين، وما نتمنّاه له ولهم، فإنّ العمل الإسلامي، فكراً كان أم ممارسة، لا يمكن أن يؤتي ثماره المرجوّة في غيبة عامل الوحدة ورصّ صفوف الجبهة الداخلية له، وذلك من خلال احتواء الخلافات والمنازعات الثانوية التي من شأنها خلق حروب ومعارك لا طائلة فيها، ويكون فيها الأثر الكبير في: - تضييع للجهد الذي ينبغي أن يركّز في المعارك المصيرية ضد أعداء الإسلام. - تبديد للوقت الذي ينبغي أن يستثمر لصالح تلك المعارك. - استنزاف لطاقات أجيال المسلمين. - هدر هائل لإمكانيات المسلمين المتعدّدة. - خسارة فادحة وبثمن باهض في موارد المسلمين وأموالهم يدفعونها المسلمون على حساب كرامتهم، وربّما وجودهم. إنّ أيّ غرس مهما كانت ميزاته لا يمكن أن ينمو بمجرّد توفّر التربة اللازمة له، حتى وإن كانت مؤاتية بكل المقاييس والمواصفات المطلوبة، ولكن توفّر «المناخ» المناسب عنصر لابدّ منه لكي يبدأ ذلك الغرس رحلة النماء والاخضرار، وإذا فسد «المناخ» فإنّ مصيراً مشؤوماً ومحزنا سيلحق بالغرس بالتأكيد، يتراوح بين توقّف نموّه واصفراره، وبين استمراره موصوفاً بمختلف أشكال العجز والعاهة، وفي أحسن صوره: فلن تكون الشجرة من جنس الغرس بأي حال. والوحدة - بجميع أشكالها وصورها - هي قوام ذلك «المناخ» الذي ينبغي أن يتوفّر لكي تنمو شجرة الإسلام وتترعرع وهي خالية من الضعف والعاهة والاصفرار. إنّ قوة الإسلام لا يمكن أن تتمّ وتصبح مؤهّلةً للاستخدام في غيبة الوحدة، وغاية ماتكون في مناخ كهذا هو: * إما أن تنشغل بتوافه الأمور فتتبدّد عبثاً. * أو أن تستخدم بحيث تصبح أداةً لمصادرة وبطش الإخوة بعضهم بعضاً. وذلك ما حدث فعلاً في ظلّ مرحلة التدهور التي شهدها العالم الإسلامي في العصر العباسي على سبيل المثال، عندما أثيرت مسائل الخلاف بين الفرق الإسلامية بشكل جنوني وعنيف، وظهرت اهتمامات الفقهاء بالطعن والجرح والتعديل، تاركين وراء ظهورهم قضايا الأمة المصيرية: * عدوان التتر واكتساحهم أشهر المدن الإسلامية الكبرى حتى بلغوا قلب العاصمة الإسلامية آنذاك بغداد، ففعلوا ما فعلوا. * الحملات الصليبية المسعورة والشرسة التي هدرت من طاقات هذه الأمة المرحومة مالا يوضع لها حساب. يقول الباحث الإسلامي الاستاذ أسد حيدر بهذا الصدد: «بلغ الحال إلى تطور مؤلم أدّى إلى الطعن في المعتقدات، ونتج من وراء ذلك ثورات دموية ذهبت بكثير من النفوس والأموال بشكل يبعث على الأسف الشديد لما حلّ من التطاحن بين المذاهب، فأصبحوا أعداء متخاصمين في المعتقدات. وقد عامل بعضهم بعضاً معاملة الخارجين عن الدين حتى قال محمد بن موسى الحنفي قاضي دمشق المتوفّى سنة 506هـ : لو كان لي من الأمر شيء لأخذت على الشافعية الجزية! ويقول أبو حامد الطوسي المتوفّى سنة 567هـ : لو كان لي أمر لوضعت على الحنابلة الجزية!»([1]). وفي التاريخ المعاصر درس بالغ الأهمية يدلّل على فداحة الثمن الذي يمكن أن يدفعه الاسلاميون عندما يغيب عن إدراكهم هذا الوعي بقيمة «الوحدة والاتحاد». فعلى سبيل المثال ما حدث في مصر في الخمسينات من هذا القرن الميلادي عندما صدر قرار الحكومة المصرية بحلّ الأحزاب السياسية ومن ضمنها الحركة الإسلامية، والتي كان وجودها يشكّل قوة معارضة يحسب لها ألف حساب، فما أن صدر القرار حتى برزت الخلافات على صعيد الردّ عليه، ففريقٌ رحَّب بالقرار وقتئذ، وهتف بعضهم: «وهزم الأحزاب وحده»!!، وفريقٌ آخر أعلن صراحةً تعاونه مع الحكومة في قرارها الذي وصفوه بـ «الحكيم» وثالثٌ عبر عن امتعاضه بأن استنكره وهو يرجو من الحكومة أن تعيد «النظر» فيه، ورابعٌ لاذ بالصمت المطبق، وخامسٌ هزّ كتفيه وأدار ظهره ثم راح يجمع أشياءه ويغلق مكاتبه!!([2]). ولم يدر بخلد هؤلاء ولا هؤلاء بأنّ غياب «الوحدة والاتحاد» هو الذي ساعد على اجتراء الحكومة على إلغاء الأحزاب السياسية، وبالتالي إلى تصفيتها الواحدة تلو الأخرى.. وذلك ما حدث فعلاً، حتى كان نصيب الحركة الإسلامية من التصفية أضعاف أضعاف أنصبة الاخرين مجتمعين. المجمع العالمي للتقريب... والتصدّي: ومن هنا طفق علماء المسلمين المخلصين فشمّروا عن سواعدهم لإعادة الترتيبات اللازمة، والعمل على تنظيم برامج عامة لتوحيد الصف الإسلامي، وخلق مناخ مناسب لها، انبثاقاً من روح الاخوة التي مافتأ القرآن يدعو اليها. ذلك لأن مايدفع هؤلاء المخلصين اليوم إلى السعي الجادّ في طريق الوحدة الإسلامية، والجهد المبذول لأجل تنظيم برامج عمل متكاملة تحتوي على أرقى السبل الهادفة إلى ذلك، إنّما هو رياح الصحوة الإسلامية التي اجتاحت كل أطراف العالم الإسلامي الرحب، خاصة بعد قيام الثورة الإسلامية المباركة في ايران بقيادة الإمام الراحل الخميني العظيم(قدس سره). إنّ هذه الصحوة المباركة في حاجة ماسة إلى زاد فكري رشيد يهدي أبناءها سواء السبيل حتى تأتي أُكلها بـإقامة المجتمع الإسلامي المنشود، المعافى من كل الآفات، ليتمّ إقامة الدين الحنيف في كلّ مناحي الحياة العملية: في الآداب والمعاملات والشؤون العامة. ومن هنا انبرى المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية مخترقاً للصفوف، ليضطلع بمهمّة التصدّي لأبرز أزمات الأُمة الإسلامية واحتوائها، انطلاقاً من إدراكه الفذّ لعوامل هذه الازمات ومفتعليها بعد الإحاطة بكلّ أبعادها السياسية والاجتماعية والحضارية. ومن ثم فالمجمع العالمي هذا يدرك - بعد أن يأخذها بجدية وتدبّر - أنّ مهمة التصدّي مهمة خطيرة تحتاج إلى كلّ جهد يستطيعه ذوو العطاء والفكر والوقّاد من أبناء هذه الأُمة جميعاً. إذ إنّ المهمة - بحكم طبيعتها - لن تكون مهمة فرد أو مؤسسة أو جماعة، بل وليست مهمة جيل واحد، وإنّما ينبغي أن تتكاتف حولها الجهود وتنصبّ فيها الطاقات على اختلافها حتى نتوصّل إلى الهدف الأصيل وبلورته على أرض الواقع. وهذا يتطلّب التفاعل مع المشكلات وظروفها ومن ثم الجلوس حول الطاولة المستديرة لغرض مناقشتها مناقشة علمية هادفة، وبالتالي الإقرار على وضع الحلول الجذرية اللازمة لها. وليست هذه بالمهمة اليسيرة كما يتصوّرها البعض، بعد أن ساد الفكر الاستعماري الغربي أرجاء المعمورة، وجمِّد العقل الإسلامي عهداً طويلاً، وسُعي إلى عمليات «التزريق» لجسم الأمة المسلمة لفترات طويلة لأجل تخديره واحتواء قوته، وبالتالي العمل على تحويله إلى آلة عاطلة عن العمل. مؤتمرات الوحدة الإسلامية ودورها الإيجابي: إلا أنّ رحلة الألف ميل تبدأ دائماً بخطوة واحدة، فبدأ أول ما بدأ المجمع بإقامة مؤتمرات الوحدة الإسلامية السنوية المنظمة ليلفت نظر مفكري الأُمة ومثقفيها إلى أهمية القضية على الصعيد السياسي والاجتماعي بل والحضاري، ودورها الإيجابي البارز في تشجيع اللقاءات بين الفعاليات الإسلامية: الأدبية والعلمية والفكرية لأجل: 1- إيجاد علاقة حميمة فيما بينها وتحويلها إلى علاقة ذات مستوى فكري يتمّ من خلالها التعارف والتلاقي بين الأفكار المشتركة. 2- خلق المناخ المناسب لإقامة الحوار العلمي الهادف والمبني على أُسس ومرتكزات مشتركة ليعي كل طرف الطريقة التي يفكّر بها الآخر، فلا يؤاخذ الآخر بشيء لم يأتيه، وبالتالي تتّضح الرؤيا الصحيحة والصافية لكلّ منهما للآخر. إذ إنّ كل فريق ينظر بمنظاره الخاصّ الصورة التي تعنيه وحده، ومن الطرق والأسانيد التي تهمّه فقط، وبهذا يصبح منظاره إنّما يلتقط النصف من الصورة الكاملة للحقيقة. ثم وإنّ هذا النصف أيضاً محشوّ بأحاديث الغلاة والنواصب المختلقة، وبذلك يصحّ أن نقول: إن منظار كلّ فريق إنّما يلتقط - في الحقيقة - ربع الصورة إنّ لم تكن أقلّ. ومن هنا تتحدّد الصورة ويضيق زاويتها، فتنعكس على مجمل رأي الفريق للآخر. كتب الشيخ محمد جواد مغنية في مقدّمة كتابه يقول: إنّ الداعين من السنّة إلى التهجّم على الشيعة يحتجّون بأقوال الغلاة المرفوضين أصلاً من الشيعة، وإن الداعين من الشيعة إلى التهجّم على السنّة يحتجّون أيضاً بأقوال الغلاة - النواصب - من أهل السنّة، لهذا يبدو أنّ الغلاة من الطرفين يشكّلون فريقاً واحداً يصحّ فيه تسمية «الفريق الثالث» مهمته ضرب الإسلام وتمزيق المسلمين([3]). فالشيعي قد ينظر إلى بعض المفاهيم التي تتّصل بأهل السنّة من خلال منظاره الخاصّ الذي يعكس الذات الشيعية التي امتزجت فيها أحاديث الغلاة وعقائدهم، والدليل على ذلك مانرى من سبّ بعض الصحابة الذي يجري على ألسنة العوام، وليس له مصدر قطعاً إلا أحاديث الغلاة([4]). وكذا السنّي قد ينظر إلى بعض المفاهيم التي تتّصل بالشيعة من خلال منظاره الخاصّ الذي لا يلتقط إلاّ مجمل التراث السنّي الذي امتزجت فيه أحاديث النواصب وعقائدهم، والركام الهائل من الاسرائيليات الموضعة فيه، وليس أدلّ على ذلك من جهل عامّتهم بمنزلة أهل البيت(عليهم السلام)وتفضيل آخرين عليهم ممّن هم أدنى منهم كثيراً: علماً وفضلاً وكرامةً وديناً. إنّ الغلاة والنواصب قد لعبوا دوراً بالغ الخطورة في تأصيل النزاع وتأجيج النار بين الأطراف الإسلامية، بعدما صاغوا أهواءهم وضلالاتهم في أحاديث وضعوها ونسبوها إلى النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام) والصحابة(رضي الله عنه)، فانتقلت هذه الأحاديث إلى مصادر المسلمين، فكان من الطبيعي إذا تترك آثارها على آفاق التفكير وطرقه عند المسلمين، فتنعكس فيها بعد طبيعة رؤياهم للمفاهيم التي تتّصل بهذا الفريق أو ذاك، وبالتالي حدوث كلّ هذا التشويش والاضطراب في عقائد الناس وتصوّراتهم، وهو واقع لا يُحسد عليه. ومن هنا فإنّ إقامة المؤتمرات الوحدوية الإسلامية السنوية التي تعقد بمباركة الجمهورية الإسلامية الايرانية في طهران، إنّما تتمّ لأجل: 1- تحويل صيغة الأبحاث الفكرية أو العلمية أو السياسية القائمة على مناقشة الأفكار الإسلامية المختلفة، من صيغة تتخذ صفة الهجوم والدفاع والردّ والسبّ واللعن التي تثير بمجموعها أجواء الانفعال والحساسية المرغوب عنها إلى صيغة تأخذ شكل البحث والتحليل الدقيق للقضايا المطروحة، وشكل المناقشة الهادئة المبنية على أسس علمية منطلقة من مصادر أصيلة صفةً لها، بعيداً عن أن يكون هذا الاحتمال إنّما هو وجهة نظر زيد أو عمرو، طالما كان البحث أو المناقشة تلتبسان بثوب الإسلام العزيز. 2- الاصطباغ بصبغة الإسلام السمح لأيّ تحرك فكري أو عملي لأجل تحقيق القدرة النفسية - لأيّ فريق اسلامي - على مواجهة أية قضية فكرية أو علمية أو أدبية أو شرعية بجدّية واهتمام وسعة أُفق ورحابة صدر، بعيداً عن التشنجات وإثارة الحساسيات الممقوتة، لأن القضية بمجملها هي ماذا يقول اللّه ورسوله، وعلى الامتداد: ماذا يقول العلماء المخلصون، بعيداً عن كلّ موروث أو مألوف شائع. إذ القضية إما أن تكون ثابتة بالطرق الصحيحة الاجتهادية فتقبل، وإما أن تكون غير ثابتة فتُرفض. وبذلك تتحوّل الخصوصية إلى «وسيلة» فكرية بارعة لفهم الفكرة الإسلامية العامة ومن خلال منظار سليم ومحكم. وذلك بفضل معية إقامة المؤتمرات واللقاءات الإسلامية الدورية. 3- أن يعيش المسلمون - ككّل - في تحرّكهم السياسي من مواقع السياسة الإسلامية العامة، وتحرّكهم الاجتماعي والثقافي من مواقع الثقافة الإسلامية العامة، لأنّهم لا يستطيعون الوصول إلى الأهداف الكبرى المتمثلة في العزّة والاستقلال السياسي والثقافي والاقتصادي إلا في ضمن «الدائرة الإسلامية» العامة والكبيرة، لأنّ دروس التاريخ قد علّمتنا أنّ الاستعمار الغربي والاستكبار العالمي لا يمكنهما أن يملكا كل الأوراق على الطاولة المستديرة إلا إذا تحركا في الدائرة الطائفية الصغيرة، بينما يفقد أكثر هذه الأوراق في الدائرة الإسلامية الكبيرة. يقول الدكتور عزّ الدين إبراهيم بصدد ذلك: «والتفريق بين السنّة والشيعة صار همّاً لدى الدوائر الغربية، يعملون ويخطّطون ويضعون أفضل البرامج بطرق علمية ذكية لزرع الفتن بعد ذلك في صفوف المسلمين، ففي امريكا وبزعامة دكاترة وبروفسورات وقساوسة وحاخامات عقدت جامعة الينوي في شيكاغو مؤتمرا تبشيريا في شهر ديسمبر من العام 1984م جاء من ضمن توصياته: إنّنا لا يمكن ان ننجح في تحويل المسلمين إلى نصارى، ولكن علينا أن نزيد الفرقة بين المسلمين أنفسهم فنضرب على وتر السنّة والشيعة»([5]). إذن فلا مجال للتفكير بأنّ هناك قضية شيعية يمكن أن تطرح في الساحة الدولية، أو معسكر شيعي يمكن أن يلقي جيرانه بين المواقع الاستراتيجية الحديثة، لأن الاستعمار الغربي والمعسكر الاستكباري سيطرح أمام القضية الشيعية قضية سنّية، ومقابل المعسكر الشيعي معسكراً سنّياً، وبذلك يشغل الساحة بالنزاع الطائفي، ويشعل المنطقة بنار الطائفية المحرقة، وبالتالي يخلو له السبيل للسيطرة على الموقف كلّه، ويكون هو المنتصر في النهاية. وهذا ما كان يؤكّد عليه الامام الخميني(قدس سره) في أغلب خطاباته ورسائله للناس. فقد جاء في وصيته الإلهية قوله: «وعليهم - أي العلماء الاعلام والخطباء في البلدان الإسلامية - أن يدعوا الشعوب إلى الوحدة والى تجنّب النعرات العنصرية المخالفة لتعاليم الإسلام، والى أن يمدّوا يد الأُخوة إلى إخوتهم في الإيمان بمختلف بلدانهم وقومياتهم، فالاسلام العظيم سمّاهم «إخوة» وإن تحقّقت هذه الإخوّة الإسلامية يوماً بهمّة الحكومات والشعوب وبتأييد اللّه تعالى فسترون أن المسلمين يشكّلون أكبر قدرة عالمية»([6]). 4- إعطاء الفكر الإسلامي ساحة عقلية موضوعية هادئة تناقش المواقف الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية بهدوء واتزان ومسؤولية، فتكون الساحة الأقرب إلى الحقيقة الإسلامية دون البعد عن الحجّة والدليل المتّفق عليه، وبذلك تلغي ترتيب سلّم الأولويات الموضوعة دون مواقعها الصحيحة، وبالتالي سيمثل النهج الشرعي لمسيرة المسلمين فيما يرضي اللّه تعالى، كما ويمثّل النهج الواقعي لاستعادة سيطرة الإسلام على الحياة مرة أخرى. وهكذا مشروع ليس مشروعاً استعراضياً، بل هو مشروع علمي حضاري ضخم، لذا لا يمكن أن يتم في ساحة حادة ومضطربة تتخذ السباب والشتم والأساليب الحادّة التي قد تفرضها المشاعر المتوترة في حالات الصراع المذهبي أو السياسي أو الفكري لتكون تنفيساً عن العقد المكبوتة، وتفجيراً للغيظ الكامن في الذوات. فهذه الأساليب غير المدروسة لا تخدم الأهداف في شيء، ولا نرى فيها أُسلوب منتجاً في ساحة الصراع مع العالم المستكبر، لأنه يؤدي إلى نوع مثير من الاستفزاز للجانب الآخر، فتقوى إرادته - حينئذ - في المواجهة، وتشتد عزيمته في التحدّي، وبالتالي تتحول إلى معركة ليس للإسلام ناقة فيها ولا جمل. ومن هنا فقد أحجم القرآن الكريم عن أُسلوب السبّ كوسيلة من وسائل الدفاع أو الهجوم، ودعا المؤمنين إلى الكفّ عن هذا، لما لها من انعكاس سلبي على طبيعة العمل الإسلامي. قال تعالى: (ولا تسبّوا الذين يدعون من دون اللّه فيسبوا اللّه عدوا بغير علم كذلك زيّنا لكل أمة عملهم)([7]). فاذا كانت الضرورة تتحتم على المسلمين في الاحجام عن أُسلوب السب كوسيلة من وسائل المواجهة مع الكافرين ممّا يؤدي بطبيعة الحال إلى لجوء أولئك إلى الردّ من خلال سبّ المقدسات الإسلامية ممّا قد لا يكون في مصلحة الرسالة الإسلامية وقاعدتها الشعبية العريضة، فان الضرورة تصبح أوجب لدى فرق المسلمين بعضهم بعضاً. إذن إن هذه المهاترات «السبابية» في الرموز الإسلامية التي يقدّسها هذا الفريق أو ذاك يقود إلى إفراز حالة سلبية لا تخدم الجو الإسلامي العام بأي شكل من الأشكال. وهذا ما نجده في الكلمات التي أطلقها أمير المؤمنين(عليه السلام) عندما سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام أيام حربهم بصفين، ويكيلون لهم الشتائم، فقال: «إنّي أكره أن تكونوا سبّابين، ولكنكم لو وضعتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللّهم احقن دماءنا ودماءهم، واصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به»([8]). فالإمام(عليه السلام) لم يكن يريد لأصحابه أن يستوطنوا «المواقع» الجامدة والسلبية في تحرّكهم، لأن ذلك لا يكون أمراً واقعياً وعملياً في ساحة الصراع أو ميادين الخصام الذي قد يحتاج فيها إلى أُسلوب يمكن من خلاله تسويغ موقفه بالتعبير عن رأيه في خصومه أمام الآخرين، فتدخل فيه طبيعة مشاعل النفس الإنسانية وتطلّعاتها التي تتقبّل الكلام الحكيم والمنهج المنطقي المبني على قواعد وأُصول علمية، وترفض الترهّلات غير الهادفة التي من أكثر مصاديقها: السباب والشتم الممقوتان. ومن هنا أراد الامام علي(عليه السلام) من خلال كلماته أن يحقّق هدفين أساسيّين: الأول: استبدال الروح العدوانية عند أصحابه إلى روح أخوية متفتّحة، تعي الموقف ككل، وتحيط بجميع جوانبه. الثاني: تبنّي لغة الحوار مع الخصم قدر الإمكان من خلال إثارة الحواس وتهييجها لغرض فرض استماع الدعوى أو اجتذابه - على أقل الاحتمالات - إلى التفكير بها بعيداً عن كلّ ألوان التشنجات والعقبات الرئيسية التي يمكن أن تحول دون الوصول إلى عملية الحوار. وهذا بعينه هو منهجية القرآن في طرحه للغة الحوار الذي يبتني على أُسلوب خاص يقوم على دعامتين: الأولى: رفض الدخول في الحوار مع الجاهلين إلا إذا كان يستهدف رفع الجهل عنهم. يقول تعالى: (ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون)([9]). الثانية: العلمية والموضوعية في الحوار من خلال التأكيد على إيجاد أمرين: 1- الموقف المتوازن الذي يوحي فيه للطرف الآخر بأنّه لا يحمل أية فكرة مضادة بل يقف على مسافة بين الرأيين فيما هو احتمال الخطأ والصواب، مما يؤدي إلى إيجاد جو روحي مفعم بالحياد الفكري من جهة، وفي «إغراء» الطرف الآخر بامكانية الاقتناع والمجاوبة من جهة أخرى. وهو ما نستوحيه من قوله تعالى: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)([10]). 2- الموقف العلمي المستخلص من أدلّته الموثقة لدى الطرف الآخر، من خلال التأكيد على المباني المشتركة بين الأطراف، ونعني بها: الكتاب والسنّة الصحيحة الشريفة، وهو ما نستلهمه من آيات كثيرة، منها: قوله تعالى: (قل يا اهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون )([11]). وقوله: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون)([12]). وقوله: (قولوا آمنا باللّه وما أُنزل إلينا وما انزل إلى إبراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وما أُوتي موسى وعيسى وما أُوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون)([13]). ومن هنا نلمس بوضوح وعن قرب مافي الإسلام العزيز من مرونة وسماحة ووداعة الشيء الكثير، ففي الآيات المتقدمة الذكر نرى أنه يأمر أتباعه بالالتقاء بأهل الكتاب من خلال الإيحاء بالايمان بمقدساتهم من موقع الايمان بمقدساته من دون أن يكون نوعا من تقديم التنازلات من قبله بفعل المجاملة وتأسيس قاعدة مشتركة للبحث معهم، بل هو نوع من أنواع الانسجام من خلال التذكير بالمواقع المشتركة فيما بينه وبينهم، الأمر الذي له الدور المدهش في ملء أطراف الحوار بالشعور بنوع من «القرابة» الروحية والفكرية إليهم، مما يبعث جوا خاصا يملؤه الهدوء ويطغى عليه الانسجام بين الأطراف، فيهيء الأرضية المناسبة للمراحل التالية من طرح الأفكار أو المسائل ثم محاولة إيجاد الحلول المناسبة لها. وهذا ما أمر به القرآن الكريم وحثّ عليه أتباعه من إيجاد أقرب المعادلات الروحية والفكرية مع غير المسلمين الذين قد نجد الكثير من الفواصل الفكرية والمسافات العقائدية بيننا وبينهم، وأما فيما بين المسلمين أنفسهم - بطوائفهم - فالتأكيد على إيجاد هكذا معادلات يكون أبلغ وأكبر. ذلك لأن الذين يعيشون داخل البيت الإسلامي تنعدم - أو تكاد - المسافات العقائدية فيما بينهم، وتقصر إلى أبعد الحدود والفواصل الفكرية إلا في بعض المسائل التفصيلية. وبوجه عام فإنّهم لا يختلفون في الجوانب الفقهية بشكل مطلق، بل ان هناك حركة دائبة نشطة في المسائل الاجتهادية يمكن أن تنطلق من مواقع الخلاف لتصل إلى مواقع اللقاء فيما بينهم، لأن تطور «الحوار الاجتهادي» لابد وأن يصل إلى نتيجة في نهاية الأمر، كما وصل إلى نتائج ايجابية كثيرة - وعلى كافة الأصعدة - في الماضي. وهذا لايمكن أن يحدث إلا: 1- باستمرار عملية الحوار في جلسات دورية نشطة لا تعرف الكلل ولا الملل. 2- الالتزام بالسلوك الأخلاقي في الحوار كما أمرنا القرآن الكريم وحثَّ عليه. إذ إن اللقاءات الفكرية المتكرّرة والالتزام بالسلوك القرآني في الحوار يعتبران أحد أوجه العلاج الواقعي والأساسي في ضخّ نبض «الوحدة الإسلامية» بالحياة والحركة. وهذا عين ما يبغيه اللفيف من رجال التقريب من إقامة مؤتمراتهم الدورية السنوية في العاصمة طهران، حيث يلتقي الجميع من هذه الأُمة المرحومة وجهاً لوجه، ومن كافة الأقطار والعواصم الإسلامية، ليتحاوروا فيما بينهم بصراحة وواقعية، وليكشفوا وليدرسوا أهمّ مشاكل أمتهم بطريقة هادئة ومتزنة وواعية، بعيداً عن كل ألوان التشنج والعصبية الطائفية، وهو أمل جميع المخلصين من أمتنا العريقة: (وكذلك جعلناكم امة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا). -------------------------------------------------------------------------------- [1]- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1 / 190 . [2]- انظر عالم الإسلام والعروبة، مقالة للدكتور حسين مؤنس نشرتها مجلة «العربي» العدد (149). [3]- الجوامع والفوارق بين السنّة والشيعة / 9 . [4]- في هذا الموضوع راجع كتاب أصل الشيعة وأصولها للإمام كاشف الغطاء: 84 - 94، وكتاب بحث حول الولاية للشهيد الصدر. [5]- موقف علماء المسلمين من الشيعة والثورة الإسلامية / 7 . [6]- وصيّته(قدس سره) المطبوعة باللغة العربية تحت عنوان «صحيفة الثورة الإسلامية» 39 . [7]- الانعام / 108 . [8]- نهج البلاغة: الخطبة رقم (206) ضبط صبحي الصالح. [9]- آل عمران / 66 . [10]- سبأ / 24 . [11]- آل عمران / 64 . [12]- العنكبوت / 46 . [13]- البقرة / 136 .