ـ(81)ـ الدنيا من كونها مسرحاً للتنافس والتكالب على المال إلى مسرح للبناء الصالح والإبداع المستمـر(1). وأما الثانية فإنها لا تتوانى عن إبراز الجوانب الغريزية وبأوضاعها الشاذة، أو الانطلاق من منطق الغلبة والجبروت، إذ لا مانع لديه من تمجيد الماكر المغتصب وإضفاء صفة الذكاء والبطولة عليهما. وأما المدنية فهي لا ترتبط جوهرياً بأي فكر وليست جزءاً من الحضارة أو صورة من صورها وإنّما يتم ارتباطها مع العقل المجرد ويأتي انبثاقها عن إبداعاته التي تتسم طبيعتها بالاستقلال عن الأيدلوجيات الحضارية; فالمدنيه هي كل ما يرتبط بوسائل الحياة والمتطلبات المادية التي يحتاجها الإنسان في توفير سبل راحته ورفاهه. ولم تكن المدنية هذه وليدة زمن محدد أو مكان معين، بل ساهمت في ظهورها جماعات وشعوب مختلفة; ولم يكن ظهورها أيضاً بشكل مفاجئ ولأول مرة; بل أن كثيراً من نتائج ما توصل إليه العلم المادي الحديث لم يتهيأ لها الظهور بأشكالها التي هي الآن إلاّ بعد عمليات من النمو المستمد من مواقع مدنية سابقة. صحيح ان قسم من إبداعات العصر ظهرت لأول مرة من خلال جهود فردية، ولكن كثيراً منها لم تظهر إلاّ من خلال جملة من التمهيدات والمعارف والتجارب التي بدأ بها السابقون الذين نقلوا خلال ذلك الفكرة الأساسية والتجربة الأولية لمن بعدهم الذين استلموا بدورهم سر الاكتشاف وانطلقوا به نحو الإبداع والتكامل كما هو شأن المدنيه الإسلامية التي طالما أمدت ومهدت المدنيه الحديثة بالشيء الكثير حيث تركت لرجال الثانية النواة والركائز الأساسية في أكثر من علم وموضوع سيما في الطب والكيمياء والجيولوجيا والرياضيات وعلم الحيوان والنبات والجغرافيا والفلك وغيرها ____________________________________________ 1ـ انظر منابع القدرة في الدولة الإسلامية للصدر ص 15.