ـ(306)ـ تفصيليّة، لأنها لو صنعت ذلك لأصبح حالها حال الرسالات السماوية السابقة التي كانت تستدعي التغيير والتجديد بين حين وآخر من تاريخ البشرية، وهذا ينافي أبديتها وخاتميتها. فلكي تكون الرسالة الإسلامية رسالةً كاملةً شاملةً من ناحية، وتكون صالحةً للدوام والاستمرار في كلّ زمان ومكان إلى يوم القيامة من ناحية أُخرى، كان من الضروري أن يفرز الإسلام ويفرّق بين مساحة العناصر الثابتة التي لا تتغيّر بتغيّر الظروف والأحوال وبين العناصر المتطورة التي تتغير بحسب مقتضيات الظروف والأحوال، فيباشر في المساحة الأولى بوضع الأحكام والقوانين والتشريعات اللازمة في أكمل نظام اجتماعي يريد إسعاد البشرية، ولكنّه في المساحة الثانية لا يباشر بمثل ذلك بل يعمل بصورة غير مباشرة، وذلك بتشريع موازين وضوابط معيّنة ثابتة يضعها بين يدي وليّ الأمر الشرعي في كلّ زمان، ويفوّض إليه أمر الحكم والتقنين في إطار تلك الموازين والضوابط المعيّنة، ويأمر الأُمة الإسلامية بطاعته والانصياع لـه ما لم يخرج عن ذلك الإطار وهذه المساحة هي التي نسمّيها بمنطقة الفراغ في التشريع الإسلامي. وبهذا التوضيح يظهر أنّ الشريعة الإسلامية - وإن فوّضت أمر الحكم والتقنين إلى وليّ الأمر في المساحة التي نعبّر عنها بمنطقة الفراغ - لم تترك هذه المساحة تحت رحمة وليّ الأمر من دون أن يُخطَّط لـه التخطيط اللازم لكيفيّة ملء هذا الفراغ، بل إنّها وضعت موازين وضوابط معيّنة لملء منطقة الفراغ، وهذه الضوابط والموازين هي بنفسها من العناصر الثابتة في التشريع الإسلامي، وحالها حال باقي الأحكام الشرعية التي يجب استنباطها من الكتاب والسنّة في ضوء القواعد الفقهيّة والأُصولية العامّة التي يستخدمها الفقهاء والمجتهدون لاستنباط الأحكام.