والفرق كبير بين الاقتناع بالفكرة وتبني الرأي وبين التعصب لهما، بين قبول العقيدة لأن الدليل ساقه إليها وبين التقليد الأعمى، بين الحوار من أجل الوصول إلى الصواب وبين الجدال بهدف إفحام الآخرين وتبكيتهم واسقاطهم. والنتيجة أنا لا نرى أن من الشروط العملية للوحدة منع أرباب الفرق والمذاهب من الدعوة والتبليغ، بل ندعو لنبذ العصبية، والتجرد عن النظرة العدائية لبعضنا تجاه بعضنا الآخر، ثم ليعرض كلّ إنسان فكره وعقيدته، وليكن ميزان العقل هو الأساس في قبول ذلك أو ردهّ. لقد اتبع هذا الأسلوب اكبر العلماء من مختلف المذاهب، لم يحل الاختلاف الفكري بين اجتماعهم وتحاورهم وأخذ بعضهم عن بعض وإذا كان الاجتهاد قد قاد بعضهم إلى رأي، فإنه قد ساق الآخرين إلى رأي آخر، وما دام الدليل هو المحكم فالأمر في إطاره الصحيح وطريقه السليم نعم عندما يحاول أحد أن يفرض رأيه فرضاً، وأن يقبل الدليل والبرهان إذا كانا يؤيدان فكرته ويرفضهما إذا لم يكونا كذلك، فعندئذ يمكن أن يقال أن هذا النحو من الصراع ـ الذي قد يسمى فكرياً وليس كذلك ـ أول الطريق نحو التشتت والفرقة وليس الإعلان بالرأي والدعوة إليه هو السبب في ذلك، وإنّما المشكلة مشكلة أولئك الذي لا يتحملون الحوار الفكري القائم على القواعد الاستدلالية، ويتأذون ممن لا يقبل آراءهم أو ينقدها. وكلمة أخيرة: إنّ زرع وتنمية روح الأخوة وتقبل الحقيقة وغسل القلوب مرحلة متقدمة رتبة على الحوارات الفكرية، بل هي أرضية لابد منها لإنجاحها وتحقيق مآربها، و إلاّ كانت الحوارات ساحة لإشعال نار النزاعات وتغذية الصراعات.