وإن العقل يسبق الوحي، بل يعتمد عليه الوحي، وإن الدين يعرفنا بواجباتنا الأولوية لا بوجباتنا بالفعل وهي مقترنة بالظروف الزمانية والمكانية، وإن الاستجابة للنصوص بإطاعة الأحكام التي اشتملت عليها أو نبهت إليها لا تكون مفيدة ولا نافعة إلا إذا تطابقت هذه الأحكام مع الاعتبارات العقلانية. وفرقوا بين المعارف، فجعلوا منها الدينية وهي لا تكون إلا ضرورية، والمعرفة العلمية الاجتماعية ولا تكون إلا جائزة تحتمل البدائل المتنوعة، والمعرفة العملية العلمية الجامعة بين الجانب العلمي والأخلاقي والمعياري. وأضافوا إلى هذا بيان مواقف العلمانية من بعض الأحكام الشرعية والفقهية. وأمثلة ذلك كثيرة منها: القول بأسبقية العقل على النص، وجوازُ تجاوز النص بالنظر والاجتهاد فيه، والتفريق بين إطلاق النص وإطلاق مضمونه، واعتبارهم المصالح المرسلة نقضاً لإطلاق الأحكام الإلهية، وتفريقهم الاعتباطي بين القواعد العامة كحرمة القتل وحرمة شهادة الزور، وبين أحكام أخرى كجلد الزانية، وإرث الأنثى، وقولهم بإمكان ثبات العمل بالأولى دون الثانية. هذه بعض الدعوات العلنية القولية والفعلية التي أصابت المجتمع الإسلامي فحصلت بها الاضطرابات الفكرية والعقدية والسلوكية. وكان المروق عن الدين والتفسخ والانحلال الفردي والاجتماعي المقنن. وأصبح أكثر من تراه مردداً لهذه التصورات مبهوراً بها، مقبلاً مدبراً في حياته العلمية عليها، بقدر اختلاطه بأصحابها وتأثره بهم. وربما ازداد الوضع سوءاً بتبني بعض مؤسساتنا العلمية لها، باعتبار أنها الفلسفة الرائجة، والمظهر البارز للتقدم. وترك الناس الواجبات واتبعوا الأهواء والشهوات، غير منتبهين لصوت الحق يدعوهم لما يحييهم، ولا إلى سبيل الإيمان والاستقامة الذي يخالف سبيل الضلال والكفر، ولا إلى التحذير الإلهي الوارد في قوله تعالى: (يا أيها الّذين آمنوا استجيبوا لله وللرَّسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنَّه إليه تحشرون. واتقوا فتنة لا تصيبنَّ الّذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب( ). وهل بعد الهُدى إلا الضلال، يملأ الجوانح والقلوب هزيمةً نفسية داخلية نكراء، ويحمل الرهط المنحرف عن دينه على الشك في كفاية المنهج الإلهي لقيادة الحياة وتنشيطها والسير بها صعداً إلى طرق الإنماء والارتقاء. فالمؤمن اليوم في أمس الحاجة إلى مواجهة تحدّي المنحرفين. وهو التحدّي الأخطر والأكبر. وذلك بالنهوض بتكاليف الدين ومقتضياته، وتحقيق نصوصه وأهدافه في حياته اليومية