[ 369 ] سؤال عما طلب أعداء الحق وقوله (عليه السلام) (من الرغبة فيها) بيان للموصول يعني أن ما طلبه أعداء الحق هو الرغبة في الدنيا والميل إليها وهي من أعظم البعد عن الحق والبغض له والمعاندة معه، والظاهر أن قوله (إلا من صبار كريم) أي خير شريف النفس استنثاء من الرغبة فيها أي إلا أن يكون الرغبة فيها من صبار كريم يطلبها من طرق الحلال ويصبر عن الحرام، وإخراج الحقوق المالية وإعانة الفقراء وذوي الحاجات فإن الرغبة في هذه الدنيا من الصالحات ثم حث على الزهد والصبر عليه ونفر من الدنيا بقوله: (فانما هي) أي الدنيا (أيام قلائل) وهي أيام العمر والعمر ينقضى حثيثا وينتهى سريعا إلى الآخرة والصبر على المشاق المنقضية سهل على النفوس العاقلة سيما إذا كان مستلزما للراحة الدايمة ثم أشار إلى بعض آثار الزهد وأشرف مقاماته بقوله (إذا تخلى المؤمن من الدنيا سيما - الخ) أي إذا تخلى المؤمن من الدنيا بأن قطع تعلقه بها وأخرج حبها عن قلبه ارتفع من حضيض النقص أي أوج الكمال ومن مقام الكثرة إلى ساحة القدس والجلال (ووجد) في قبله (حلاة وحب الله وكان عند أهل الدنيا) الراغبين فيها (كأنه قد خولط) واختل عقله، (وإنما خالط القوم) ودخل في قلوبهم (حلاوة حب الله فلم يشتغلو بغيره). وفيه اشارة إلى أعلى درجات الزهد وهو أن يفرغ قلبه عن غير الله تعالى حتى الخوف من النار والطمع في الجنة لسكره بحلاوة المحبة والقرب منه فلا يرى لغيره وجودا فضلا عن أن يشتغل به وهو مقام الفناء في الله وإنما قلنا هذا أعلى درجات الزاهد لأن أدنى درجاته أن يترك الدنيا ويصبر على الترك مع الميل إليها. وأوسطها أن يترك الميل إيها أيضا وهو بعد في مقام الكثرة وإذا داوم عليه وصار ذلك ملكة له وطهر ظاهره وباطنه عن جميع المقابح لأن كلها ناشية من حب الدنيا يرتقى من هذا المقام إلى مقام التوحيد المطلق وعالم القدس فيتجلى فيه أنوار الحق وأسراره ويشاهد بنور البصيرة جماله وكماله وعظمته وقدرته فيستغرق في بحر محبته ويغفل عن نفسه فضلا عن غيره بذوق حلاوة حبه ويصير حينئذ أطواره وأوضاعه وأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته غير أطوار أهل الدنيا وأوضاعهم وأقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم فيظنون أنه خولط واختل عقله حيث لم يجدوا عقله كعقلهم وفعله كفعلهم ولذلك نسب كفرة قريش الجنون إلى الجنون إلى النبي المبارك (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقرب منه قوله (أن القلب إذا صفا ضاقت به الأرض حيت يسمو) القلب من عالم القدس النوراني (1) واستقراره في عالم البدن الإنساني إنما هو بقدر تعلقه به وغفوله عن ذلك العالم الأصلي فإذا صفا ________________________________________ 1 - في ذلك كلام يأتي إنشاء الله تعالى. (*) ________________________________________